حين يهدد خطأ صغير مستقبل علامة تجارية كبرى: كيف نجت “Odwalla” من أزمة غذائية قاتلة؟

د. طلال المغربي
د. طلال المغربي

يأتي هذا المقال ضمن سلسلة دراسات حالة استعرضتها من خلال دراستي لمرحلة ماجستير إدارة الأعمال (MBA)، والتي تضمنت الاطلاع على نماذج عالمية تناولتها كلية هارفارد للأعمال (Harvard Business School) في مجالات إدارة الأزمات، التخطيط الاستراتيجي، والصورة الذهنية.

بدأتُ هذه السلسلة بمقال سابق حمل عنوان: “إدارة الأزمات وتعزيز الصورة الذهنية: دروس من أزمة تايلينول  (Tylenol)“، تناول المقال كيف واجهت شركة “جونسون آند جونسون” واحدة من أخطر أزماتها في الثمانينات، واستطاعت أن تخرج منها بثقة ومسؤولية، وتحول تلك الأزمة إلى نقطة قوة.

وفي هذا المقال، أنتقل إلى قصة لا تقل أهمية، لكنها تدور في قطاع مختلف تمامًا: قطاع الأغذية. في صناعة الأغذية، لا تُبنى السمعة فقط بالجودة والطعم، بل بالثقة. والثقة هنا ليست شعارًا تسويقيًا، بل أصل تجاري واستثماري ومجتمعي، وأي خلل فيه قد يتحول إلى أزمة وجودية. هذه الحقيقة تجلّت بوضوح في قصة شركة العصائر الأميركية “أودوالا ” (Odwalla)، حين تسبب خط إنتاج واحد، وزجاجة عصير تفاح واحدة غير مبسترة، في وفاة طفلة عمرها 16 شهرًا، وإصابة العشرات بأحد أنواع البكتيريا القاتلة من نوع E. coli O157:H7.

لكنّ ما يجعل هذه القصة محط اهتمام ليس المأساة الصحية ذاتها، بل ما تلاها. فقد تحولت الشركة، خلال أسابيع قليلة، من رمز للجودة والنقاء الطبيعي إلى عنوان للأزمة، ثم – وبشكل مدهش – إلى نموذج يُدرّس في إدارة المخاطر المؤسسية والتواصل أثناء الكوارث.

في أكتوبر 1996م، بدأت أولى الإشارات من مشافٍ في كولورادو وواشنطن تفيد بحالات تسمم حاد، ثم وفاة الطفلة “آنا غيمستاد – Anna Gimmestad”. تبين لاحقًا أن السبب كان عصير تفاح غير مبستر من إنتاج “أودوالا”، حيث اتضح أن الشركة كانت تتجنب استخدام البسترة حفاظًا على الطعم الطبيعي، لكنها لم تكن مستعدة لاحتمال أن الحموضة الطبيعية للعصير غير كافية لقتل البكتيريا.

ردة فعل الشركة كانت سريعة، فخلال أقل من 24 ساعة من إخطار إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA)، سحبت الشركة طوعًا 13 منتجًا يحتوي على التفاح من أكثر من 4,600 نقطة بيع في الولايات المتحدة وكندا. لم تنتظر تحميل المسؤوليات، ولم تخفِ الحقائق. بل ظهرت إدارتها في مؤتمرات صحفية، وأطلقت موقعًا إلكترونيًا خاصًا بالأزمة، وفتحت قنوات شفافة للتواصل مع المستهلكين ووسائل الإعلام.

الرئيس التنفيذي للشركة لم يكتفِ بالتصريحات، بل التقى شخصيًا بعائلات الأطفال المتضررين، وقدم اعتذارًا علنيًا، مؤكدًا أن الشركة ستفعل كل ما بوسعها لدعمهم. وفي لحظة حاسمة، أعلنت الشركة نيتها تغيير سياساتها الإنتاجية وتبني البسترة للمرة الأولى. ولتعزيز ثقة الجمهور، أسست “مجلس التغذية وسلامة الغذاء” بمشاركة خبراء مستقلين، وانضمت لاحقًا لتأسيس “مجلس العصائر الطازجة الأمريكي” لوضع معايير أعلى في سلامة المنتجات الطازجة على مستوى الصناعة.

لكن الأهم من كل ذلك، كان التحول الثقافي داخل الشركة. فقد أنشأت منصب “رئيس التعلم المؤسسي”، في خطوة تعكس تبنيها لفكرة أن كل أزمة درس، وأن إدارة الشركات لا تتعلق فقط بالربح، بل بالقدرة على التعلم والتعافي وبناء الثقة من جديد. وفي أقل من عامين، تم اختيار “أودوالا” كأفضل علامة تجارية في سان فرانسيسكو، لتكون بذلك قصة نجاة مؤسسية لا تقل أهمية عن الأزمة نفسها.

في المقابل، تعيش بعض العلامات التجارية اليوم مواقف مشابهة، ولكن بردود أفعال متباينة. ففي حادثة شهيرة، تم إغلاق محل للحلويات مؤقتًا بالرياض بعد بلاغات عن حالات تسمم، بينما سادت حالة من الغموض لغياب أي توضيح رسمي أو اعتذار، ما فتح المجال لتضخم الأزمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. مطاعم أخرى، محلية وعالمية، واجهت مواقف مماثلة، واختارت الصمت أو الإنكار، وهو ما تسبب في أضرار سمعة قد تطول حتى بعد انتهاء الأزمة الصحية ذاتها.

في زمن العولمة والرقمنة، لم تعد الأزمات محلية. بل إن خبرًا عن حالة تسمم واحدة في فرع صغير قد ينتقل إلى الإعلام العالمي في غضون دقائق، ويؤثر على تصنيف المدينة أو حتى سمعة الدولة في مؤشرات الجاذبية الاستثمارية والسياحية. صورة الدولة لم تعد مرهونة فقط بالبنية التحتية أو التشريعات، بل بكيفية استجابتها لأخطائها، ومدى شفافيتها في مواجهة التحديات.

ومن هنا، فإن قضية مثل سلامة الأغذية، رغم بساطتها الظاهرية، تحمل في طياتها أبعادًا استراتيجية تتعلق بثقة المستهلك، ومتانة الرقابة، وجاذبية السوق أمام المستثمرين، وصورة البلد أمام العالم. لذا، فإن على صناع القرار، كما الشركات، أن يدركوا أن كل أزمة غذائية هي امتحان لمنظومة كاملة، تبدأ من المصنع أو المطبخ، ولا تنتهي عند المتحدث الرسمي.

ما فعلته شركة “أودوالا” لم يكن مثاليًا منذ البداية، لكنها أظهرت شيئًا بالغ الأهمية: أن الاعتراف، والصدق، وسرعة التحرك، والتحول المؤسسي، ليست فقط وسائل للخروج من الأزمة، بل أدوات لصناعة مستقبل أكثر صلابة. وهذه الدروس لا تخص هذه الشركة أو السوق الأميركي وحده، بل كل من يسعى لبناء قطاع غذائي موثوق، واقتصاد جاذب، وتسويق للمدن والدول تُقاس قوتها بقدرتها على الاعتراف بالخطأ … وتصحيحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *