إدارة الأزمات وتعزيز الصورة الذهنية: دروس من أزمة تايلينول Tylenol

د. طلال المغربي
د. طلال المغربي

خلال مراجعتي لبعض الكتب والمراجع القديمة، عثرت على مشروع لمادة “التخطيط الاستراتيجي للتسويق” التي درستها ضمن مرحلة الماجستير في إدارة الأعمال MBA بجامعة Kent State University في ولاية أوهايو الأميريكة. كانت من أبرز عناصر هذه المادة الاعتماد على دراسات الحالة من جامعة هارفارد للأعمال Harvard Business School Case Studies لما تحمله من دروس استراتيجية قيّمة من واقع تجارب شركات عالمية.

ومن بين هذه الدراسات، برزت قضية Tylenol التي تُعد واحدة من أشهر حالات إدارة الأزمات في التاريخ الحديث. إذ واجهت شركة جونسون آند جونسون J&J أزمة حقيقية هددت سمعتها وثقة العملاء في منتجاتها، بعد حادثة تسمم أدت إلى وفيات متعددة. إلا أن تعامل الشركة مع هذه الأزمة تحوّل إلى نموذج يُدرّس عالميًا في الشفافية، والمصداقية، والابتكار. ومن هذا المنطلق، أشارك هذا التحليل ضمن سلسلة مقالات قادمة من دراسات حالة هارفارد للأعمال تهدف إلى نقل الفائدة إلى الشركات والمؤسسات في السعودية والعالم العربي، ولتعزيز الأداء المؤسسي وبناء الصورة الذهنية المستدامة.

أزمة التسمم في دواء Tylenol… كيف بدأت؟

في يوم 30 سبتمبر من عام 1982م، تلقت شركة جونسون آند جونسون اتصالًا من صحيفة Chicago Sun-Times يفيد بتعرّض عدد من الأشخاص للتسمم بعد تناولهم كبسولات دواء Tylenol. سرعان ما أكدت التحقيقات الطبية أن السبب هو وجود سيانيد البوتاسيوم داخل العبوات، مما أدى إلى وفاة ثلاثة أشخاص في البداية، تلتها حالات أخرى لاحقًا.

انتشرت حالة من الهلع في المجتمع، وبدأت الاتصالات تتوالى على الشركة من الصحف، محطات التلفزيون والإذاعة، المستشفيات، الأطباء، الصيادلة، مراكز السموم، والسلطات الصحية، مطالبين بإجابات وإجراءات فورية. كانت الأزمة تتصاعد بسرعة، وسمعة الشركة على المحك.

استجابة جونسون آند جونسون: نموذج في إدارة الأزمات!

منذ اللحظة الأولى، أدركت الشركة أن التأخر أو التردد في التصرف سيكلفها كثيرًا. فاتخذت سلسلة من الخطوات السريعة والحاسمة، تضمنت:

1. تشكيل فريق أزمة من القيادات العليا

ضم الفريق التنفيذيين الكبار في الشركة، من بينهم رئيس مجلس الإدارة، ومدير العلاقات العامة، ورؤساء الأقسام المعنية. وتم توزيع المهام بدقة لضمان استمرار عمل الشركة بالتوازي مع إدارة الأزمة.

2. إرسال فرق ميدانية للتحقيق الفوري

أُرسلت الشركة فرق إلى شيكاغو لجمع معلومات دقيقة عن الحادث، شملت تفاصيل الضحايا، أرقام دفعات التصنيع، أماكن البيع، وتواريخ الإنتاج.

3. بناء شراكة مع الإعلام

أدركت الشركة أهمية الإعلام كوسيط لنقل الحقيقة والتوعية. فتم فتح قنوات اتصال مباشرة مع الصحفيين، الذين بدورهم ساعدوا في نشر التحذيرات وتوجيهات السلامة.

4. التعاون مع السلطات الرسمية

بدأت الشركة التنسيق مع مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA لتبادل المعلومات وتحديد الإجراءات الأنسب، رغم تردد بعض الجهات الحكومية في بداية الأمر في دعم خيار سحب المنتجات.

5. سحب شامل للمنتج من السوق

قررت الشركة طوعًا سحب أكثر من 31 مليون عبوة من Tylenol Extra Strength  من جميع أنحاء الولايات المتحدة، بتكلفة تجاوزت 100 مليون دولار. هذه الخطوة عززت مكانة الشركة لدى الرأي العام كجهة مسؤولة تضع سلامة المجتمع والعميل المستهلك فوق الأرباح.

6. إيقاف الحملات الإعلانية مؤقتًا

توقفت الشركة عن جميع أنشطتها الإعلانية والترويجية للمنتج، موجهة مواردها نحو التعامل مع الأزمة واستعادة الثقة.

7. التحقيق في نقاط التصنيع والتوزيع

أظهرت النتائج أن التسمم لم يحدث في المصنع، بل كان بفعل متعمد في نقاط التوزيع. هذا الاكتشاف ساعد في توجيه جهود الشركة نحو إعادة تصميم العبوة كأولوية.

8. إعادة بناء الثقة عبر الابتكار

طورت الشركة عبوة جديدة مقاومة للعبث، تحتوي على أغطية أمان ووسائل حماية إضافية. وأصبحت هذه الابتكارات لاحقًا معيارًا صناعيًا عالميًا.

9. استطلاع رأي الجمهور والعملاء

أجرت الشركة دراسات ميدانية لقياس مدى تضرر صورة Tylenol  لدى المستهلكين. كانت النتيجة إيجابية نسبيًا؛ إذ أظهر 87% من المستخدمين أن الشركة غير مسؤولة عن الحادث، رغم أن أكثر من 60% أبدوا ترددهم في الشراء مجددًا.

10. تعزيز العلاقة مع الوسط الطبي

استعانت J&J  بـ 2,259 مندوبًا لزيارة الأطباء والصيادلة، وتقديم توضيحات حول الأمان والإجراءات الجديدة، في تكرار لاستراتيجية إطلاق المنتج قبل 22 عامًا والتي اعتمدت على ثقة الأطباء أولًا.

11. إدماج المسؤولية الاجتماعية والاستدامة

عبر تحسين معايير السلامة ليس فقط لحماية المستهلكين ولكن أيضًا لتعزيز ثقة المجتمع والمؤسسات الصحية، مما جعل تايلينول Tylenol نموذجًا يُحتذى به في صناعة الادوية.

كيف تستفيد الشركات السعودية والعالمية من تجربة Tylenol؟

في ظل التوجهات الطموحة لرؤية السعودية 2030 نحو جعل المملكة مركزًا عالميًا في الاستثمار، الابتكار، السياحة، والرياضة، ومع ما يفرضه الاقتصاد العالمي من تنافسية متزايدة، تظهر الحاجة إلى استلهام نماذج عالمية في إدارة الأزمات وبناء الصورة الذهنية. وتقدم تجربة Tylenol  دروسًا مباشرة قابلة للتطبيق، من أبرزها:

1. المصداقية والشفافية

تعامل الشركات مع الأزمة بوضوح، دون إنكار أو تهرّب. الشفافية في مثل هذه المواقف ليست فقط مطلبًا أخلاقيًا، بل هي ركيزة لبناء الثقة طويلة الأمد.

2. سرعة الاستجابة

التحرك السريع واتخاذ القرار الحاسم حال دون تفاقم الأزمة، وهو درس مهم للشركات التي يجب أن تملك سيناريوهات جاهزة وخطط استجابة طارئة.

3. الابتكار كحل استراتيجي

الابتكار ليس رفاهية بل ضرورة، خصوصًا عند تحويل الأزمات إلى فرص. استجابة J&J في الأزمة دفعت Tylenol إلى تطوير عبوة آمنة أصبحت معيارًا عالميًا.

4. الشراكة مع الجهات التنظيمية

التعاون مع الهيئات الحكومية والمهنية يعكس الالتزام بالقانون ويعزز الصورة الذهنية. في السعودية، يعد العمل مع الجهات والمؤسسات الرسمية مثل الوزارات المعنية حسب نشاط الأعمال “وزارة الصناعة، وزارة التجارة … الخ” أو هيئة الغذاء والدواء، وهيئة المواصفات والمقاييس أساسًا لتعزيز الثقة المؤسسية.

5. الاستثمار في العلاقات العامة

الإعلام كان أداة فعالة في دعم وتعزيز صورة الشركات/المؤسسات كجهات مسؤولة من خلال تقديم مصلحة المستهلك والمجتمع على الاعتبارات التجارية. يمكن للمؤسسات السعودية توظيف الإعلام الحديث والتقليدي لعرض التزامها بالجودة والاستدامة، وتحقيق تواصل فعال مع العملاء والمجتمع.

اخيراً، تُظهر أزمة Tylenol أن الأزمة لا تعني النهاية، بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق لبناء ثقة أقوى وصورة ذهنية أكثر إشراقًا. فالإدارة السليمة للأزمات لا تحمي فقط السمعة، بل تعيد تعريف العلاقة مع المجتمع والأسواق المحلية والعالمية.

بالنسبة لسوق السعودية، التي تسعى لترسيخ مكانتها كوجهة عالمية، فإن تطبيق مثل هذه النماذج يمكن أن يعزز من جاذبية السوق السعودية في الاستثمار والصناعة والسياحة والابتكار والاستدامة وريادة الاعمال، ويرسّخ مكانتها كمثال للحوكمة، والشفافية في إدارة الأعمال.

الدرس الأهم: المصداقية، السرعة، الابتكار، الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية ليست شعارات، بل أدوات استراتيجية لنجاح الشركات والدول في عالم متغير.

رد واحد على “إدارة الأزمات وتعزيز الصورة الذهنية: دروس من أزمة تايلينول Tylenol”

  1. يقول Yasser alhakami:

    مقال مهم ورائع ويجب العمل به في وقت الازمات والتدريب عليه قبل حصول الازمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *