سلطان البازعي… الذي إن مرّ في حياتك، بقي

حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قبل أيام، كان لي لقاء مع أخي العزيز سلطان البازعي، حين زارني في بيتي بالدمام.
كما تعودنا، لا يمر بالشرقية دون أن يتصل، ولا أزور الرياض دون أن أحرص على لقائه.
تلك الليلة، بحضور بعض الأصدقاء، دار بيننا حديث طريف عن الكتابة على الجوال، واختلاف الناس في سرعتها، بين من يكتب عشرين سطرًا في دقيقة، ومن لا يكاد يفرغ من عبارة “السلام عليكم” حتى يكون الحديث قد انتهى.ضحكت وقتها وقلت:
“أنا مدين للأستاذ سلطان… هو أول من جعلني أكتب باحتراف، لا على الورق فقط، بل على المفاتيح”.
لكن الحديث العابر في تلك الليلة، كان يختزل سنوات من أثرٍ أعمق من أن يحكيه مجلس.
تعرفت إلى سلطان حينما صدر قرار تعيينه رئيسًا لتحرير صحيفة (اليوم)، ودعاني للانضمام إلى فريقه والعمل معه، ومنذ اللقاء الأول، أدركت أنني أمام قائد مختلف؛ يفتح لك الأفق ولا يقيده، يمنحك المساحة لتكون أنت.
فقد آمن مبكرًا بأن الصحافة لا يجب أن تظل رهينة الورق واليد… بل يجب أن تدخل زمن التقنية، بكل تفاصيلها.
ولم يكن ذلك شعارا تقنيا عابرا، بل قرارا عمليا تم من خلاله نقل العمل الصحفي بأكمله – من التحرير، إلى الإخراج، إلى الطباعة – من المسار اليدوي إلى نظام الحاسب الآلي المتكامل.
بل جعل كل منسوبي الصحيفة – دون استثناء – يخضعون لدورات تدريبية متخصصة في استخدام الحاسب، والكتابة الاحترافية على لوحة المفاتيح.
بل وأكثر من ذلك، ابتعث فريقًا من السعوديين إلى شركة “لينوتايب” الألمانية لتلقي التدريب على أحدث التقنيات في إعداد الصحف عبر الحاسب الألي، واستيعاب مراحل النشر الحديثة من المصدر.
وبفضل تلك الرؤية، أصبحت صحيفة (اليوم) أول صحيفة سعودية تنتقل بالكامل من العمل الفني اليدوي إلى العمل التقني المتكامل.
وقد تحقق ذلك لا بشعار تطويري معلّق، بل بقرارات فعلية، وابتعاث نوعي، وتدريب جاد، وقيادة مؤمنة بالمستقبل.
وحين خرج سلطان من منزلي، تسللت إليّ هذه الفكرة…
أن أكتب عنه، لا كواجب، ولا كمجاملة… بل لأرتاح.
ربما تكون شهادتي فيه مجروحة… وربما يقول البعض إن العِشرة تُفسد التقييم…
لكنني أكتب هذه السطور لا من أجل سلطان فقط، بل من أجل نفسي،
لأنني حين أكتب عنه، أستعيد المرحلة التي سمح لي فيها أن أمارس ما أحب، دون أن يُعيقني الخوف، أو يُعكّر صفوي الحذر، أو تربكني حسابات غير مهنية.
عشت تلك المرحلة وأنا أتنفّس الصحافة بروحها الأصيلة، رغم بعض التحديات المهنية العابرة، وكان لسلطان البازعي دور كبير في تيسير تجربتي وتخفيف عبء الطريق.
في تلك المرحلة، وجدت نفسي في قلب العالم…
أُغطي حروبًا كبرى، وأتنقّل بين سبع دول أفريقية اجتاحتها المجاعة، وأتابع عن قرب أحداثًا عالمية فارقة، لا كمتفرج، بل كصحفي يُغطي، ويحاور، ويوثق بالكلمة والصورة…
مرحلة صنعتها المساحة التي منحني إياها سلطان، لا سقف فيها للطموح، ولا حدود للتجربة.
وأقمت خلالها معارض للصور التقطتها عدستي من قلب الصراعات والنكبات والحروب،
وكان من بين أهمها معارض أقيمت برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حينما كان أميرًا لمنطقة الرياض… رعايةٌ أعتز بها، كما أعتز بتلك اللحظات التي تحوّلت فيها الصورة إلى حكاية، والمعاناة إلى شهادة.
فضلًا عن ممارسة العمل الصحفي الميداني بكل تجلياته، من التحقيقات المعمقة، إلى التقارير الإخبارية، والحوارات الصحفية، وصولًا إلى المقال، والرصد، والتوثيق.
كانت تلك مساحة حرية نادرة…
وسلطان، بدل أن يُحاصر الطموح، كان يفتحه على مصراعيه… لا يخاف من أن يعلو أحد، ولا يضيّق على من يبرع.
وكان يفرح لتقدّم أحدنا، كأنما التقدّم له شخصيًا.
في الصحافة اليومية، لا تنكشف المعادن في لحظات الإنجاز…
بل في أوقات التعب، وضغط النشر، وما بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية،
وفي مواجهة الجهات التي تُنكر ما قيل علنا، وتغضب مما نُشر صدقا،
وفي مراجعة الصفحات على عجل، وتصحيح الأخطاء قبل أن تراها العيون،وفي إعادة صياغة العناوين في اللحظة الأخيرة، أو التعامل مع “اتصال عاجل” من مسؤول منزعج، أو قارئ غاضب.
بل حتى في التعامل مع ما تواجهه إدارات التحرير غالبا من تنافر مع الإدارات العامة داخل الصحف، تلك التي يفترض أن يكون دورها خدميًا، لكنها أحيانا تحاول التدخل أو فرض سطوتها على العمل التحريري.
في كل هذه المواقف، كان سلطان هو “التِكانة”… تسنده فتسكن، وتُشركه في الهم فيحمله معك، لا عليك.
لكن الأجمل، أنه لم يكن تِكانة في العمل فقط…
بل كان سندا حين لا يكون للصحافة علاقة بالوجع.
مررتُ بظرف خارج أسوار الجريدة، لا علاقة له بالمهنة ولا بالنشر،
وكان ذلك بعد سنوات طويلة من مغادرته الصحيفة، ومغادرتي أنا أيضًا لها،
ومع ذلك، كان هو الأقرب…
فوجدته بجانبي، دون أن أقول شيئًا، دون أن ألمّح،
كان يسأل، ويواسي، ويشد على القلب لا على الكتف، ويكفي أن أقول إنني ذات يوم بكيت فرحا من موقف داعم منه.
غمرني بموقفه النبيل، بأصالته، وأخلاقه، وبمعنى أن يكون في حياتك شخص لا يُترك… ولا يتركك.
وسلطان، كما عهدناه في الصحافة، واصل حضوره القيادي في مواقع أخرى، مختلفة في طبيعتها، لكنها تحتاج نفس الطينة النادرة من الفهم والمسؤولية والخلق، ففي كل جهة عمل فيها، كان يأتي ليترك أثرًا، لا ليملأ منصبًا.
آخرها ، في وزارة الثقافة، حيث تولاها مستشارًا، ثم رئيسًا تنفيذيًا لهيئات نوعية كهيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة الموسيقى، لم يكتف بالعمل الإداري، بل صنع نماذج جديدة في التعامل مع الإبداع… في تمكين المبدعين، وتحويل الثقافة من نشاط نخبوي إلى قطاع يُستثمر فيه ويُبنى عليه.
وفي كل مرة أتابع عمله، لا أراه إلا كما عرفته أول مرة.. نفس الرجل الذي يحمل روحه أينما ذهب… لا يتغير، لكنه يتجدّد.
بقي أن أقول أن كل ما أنجزته في تلك المرحلة – بحبّ العمل، وبثقة ودعم من رئيس التحرير سلطان – كان له أثر بالغ في تجربة لاحقة، كانت مختلفة في أجوائها، لكنها أكثر جمالًا ومتعة من حيث النضج والتجريب، وهي فترة عملي في صحيفة “الوطن”، التي لعلّي أعود للحديث عنها لاحقًا.
ولأن الحديث عن سلطان لا يكتمل دون الإشارة إلى معدنه،
فأنا لا أبالغ إن قلت:
“إن أردت أن تشرح لشخص ما هي الأخلاق… فقل له: هي سلطان البازعي.”
رجلٌ نبيل، أصيل، كريم…
وإذا مرّ في طريقك، لا يتركك كما كنت.
بهذا الكلام أرى نفسي وكانك تتكلم عني وعن كل من عرف ابو بدر.
فعلاً توصيفك له بالنبل والأصالة والأخلاق جاء محله.
منذ أيام خطر ببالي هذا الإنسان وبما أنا مدين له بكثير من الأمور مهنياً وحياتياً.
مشاعرك استاذ طارق عن سلطان البازعي موجودة في قلوب الكثيرين..ولك الشكر حين عبرت عنها باسلوبك الجميل..