خلني أقول لك
أعرفك تماما ياصديقي
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
بعد أيامٍ قضاها في المستشفى، خرج صاحبي أبا عبدالله إلى بيته وقد امتلأ قلبه بالامتنان، فكان منزله محطةً للودّ ودفء اللقاء. أقبل عليه الأصدقاء يهنئونه بسلامته، وتبادلوا الأحاديث التي لا تخلو من عتابٍ عابر ومواقف تُروى على عجل، وهنا تدخل أبو عبدالله بابتسامته المعهودة وهدوئه الحكيم، ليمسك بخيوط الحديث ويحوّل ذلك العتاب إلى درسٍ في المعنى العميق للصداقة.
يقول أبو عبدالله ما أجمل أن ندرك أن الصديق قد يرى الأمور بزاوية تختلف عن زاويتنا، فما أراه أنا عاديًا قد يراه هو أمرًا يستوقفه، وما أراه بسيطًا قد يبدو له صعبًا، وما أراه ضروريًا قد يراه هامشيًا.
ولهذا، لا تقف عند مثل هذه التفاصيل العابرة التي عادةً ما تكون طارئة وليست دائمة، فهي أمام ما يجمع بينكما من ودٍّ وعشرةٍ ومواقف، لا تعادل شيئًا.
ما أجمل أن يحمل الصديق صديقه في قلبه حين يضع جبهته على الأرض في سجوده، فيذكره بدعوةٍ خالصة لا يسمعها أحد إلا الله.. دعوةٍ صادقة لم تُطلب منه، لكنها تأتي من عمق المحبة وصفاء النية.
الصداقة الحقيقية أن تلتمس العذر حين يزلّ اللسان أو يضيق الخلق، لأنك تعرف أن ما في داخله أنقى من الموقف، وأن عمرًا من العِشرة لا يُختصر في لحظة سوء فهم، أو ردة فعل غير متوقعة. فالتجربة الطويلة، والمواقف الجميلة، والمعدن الأصيل، كلها شواهد تقول إن الخطأ طارئ، والنية باقية.
الأصدقاء الحقيقيون لا يقفون عند حدود الزلل، بل يتجاوزونه برقيّهم، فيجعلون من الموقف العابر فرصة لتأكيد عمق الودّ، حين يزلّ أحدهم في حق صديقه، وتثقل كاهله الندامة وتربكه الحيرة، يكون الصديق الآخر – صاحب الحق – هو من يبادر بالاتصال، لا ليعاتب، ولا ليطالب باعتذار، بل ليقول أنا أعرفك تمامًا، وأعرف نظافة قلبك وأصالة معدنك. تلك المبادرة الراقية التي تُعيد الصفاء إلى الودّ، وتثبت أن الصداقة ليست ميزانًا للخطأ والصواب، بل ميدانًا للوفاء وسعة الصدر وصدق الشعور.
