الدمام الخضراء… حلمٌ منتظر
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
الدمام على موعد مع نهضة كبرى؛ مشاريع نوعية في النقل والترفيه والسياحة والبنية التحتية، بعضها يُنفذ اليوم وبعضها يطل في قادم الأيام، ومع كل هذا الزخم، يبقى الحلم الأجمل أن تزهو المدينة بخضرتها، لتستعيد ظلها المفقود وتكتمل صورتها كمدينة كبرى على ضفاف الخليج.
لفتت نظري مؤخرًا بعض التجارب التي نفذتها بلدية الدمام في عدد من الزوائد والمواقع التي أعيد تنظيمها وتجميلها، ومنها ما نراه في طريق الخليج مقابل أسواق التميمي وغيره من الشوارع الرئيسة، كانت لمسات صغيرة لكنها صنعت فرقًا بصريًا أوحى بأن البلدية تملك القدرة، متى ما أرادت، على صناعة مشهد مختلف يزرع الأمل ويبهج المارة.
مثل هذه التجارب تعطي برهانًا حيًّا على أن التشجير والتجميل ليسا مستحيلين، بل خيار متاح يمكن تعميمه ليشمل المدينة كلها، وقد دفعتني هذه النماذج الناجحة شخصيًا إلى فتح ملف ظل يلحّ عليّ منذ سنوات ويستوقفني كلما مررت بشوارع الدمام، مشروع التشجير الشامل للمدينة.
فالدمام، وهي على أعتاب تحولات كبرى، لا يجوز أن تبقى مدينة بلا ظل، فالتشجير ليس عملًا ثانويًا ولا زينة جانبية تؤجل حسب الظروف، بل هو بنية تحتية أساسية، لا تقل شأنًا عن الطرق والكهرباء والمياه، فضلًا عن كونه درعًا بيئيًا يحمي من الحرارة ويقاوم التغير المناخي ويعيد للمدينة توازنها الجمالي والإنساني، وإلى جانب ذلك، فإن العناية بالتشجير تتناغم مع رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ومشروعه العالمي الطموح في مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، فكيف لمدينة بحجم الدمام أن تتأخر عن هذه الرؤية وهي في قلب التحولات الكبرى التي تقودها المملكة نحو 2030؟
ومع كل هذا، تبقى الحقيقة أن التشجير في الدمام – كما في كثير من مدن المملكة – لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب والمأمول، فما يُزرع سرعان ما يذبل ويُقتلع ليُعاد من جديد في دورة لا تنتهي، بينما ما يبقى قائمًا يبدو ضعيفًا باهتًا بلا هوية ولا تنسيق، وكأن مدينة تجاوز عمرها نصف قرن ما زالت أشجارها في كثير من شوارعها وميادينها حبيسة المتر الواحد، تعيد البداية نفسها دون أن تكتمل.
والمفارقة أن الدمام تمتلك ما لا تملكه مدن أخرى مثل مشتل أمانة المنطقة الشرقية الذي يعد من أكبر المشاتل في المملكة والخليج، فضلًا عن جوارها لواحة القطيف وواحة الأحساء، وهما من أغنى الواحات الزراعية في المملكة، ومع ذلك، لم يتحول هذا الغنى إلى مشهد أخضر يليق بمدينة بهذا الحجم والمكانة.
الحل يحتاج إلى استراتيجية زراعية واضحة تنهي العشوائية وتوقف الهدر، وتضع أسسًا للديمومة والفعالية،أن تتحول الميادين والدوارات إلى مسطحات طبيعية، بعيدًا عن الحجر والمجسمات، فالمدينة محاطة بما يكفي من حجر وطوب وأسمنت وأسفلت،وأن تتحول الطرق المؤدية إلى الدمام إلى بوابات خضراء حقيقية، وأعني هنا بالتحديد: طريق الجبيل – الدمام، وطريق أبو حدرية – الدمام، وطريق الرياض – الدمام، هذه الشرايين الرئيسة، التي تشكّل الانطباع الأول للزائر، يجب أن تُزرع على امتداد لا يقل عن خمسة عشر كيلومترًا عند مداخل المدينة، مع تشجير الميادين المتقاطعة معها والمرتبطة بها.
وأن يُشرع فورًا في زراعة الشوارع الداخلية والرئيسية للمدينة بالأشجار المناسبة وبأطوال مدروسة تضمن حضورًا جماليًا وظلًا وافرًا، مع خطة صيانة دقيقة تمنع تكرار الحلقة المرهقة (زراعة، موت، قلع، إعادة زراعة).
وأن تُصان المسطحات القائمة بعناية حقيقية، عبر قص منتظم ورش وتسميد يعيد الحياة إلى عشبها الباهت الذي بالكاد يُرى بعدما غزته الحشائش الضارة وحلّت مكانه نتيجة غياب الرعاية والصيانة.
ولن يتحقق شيء من هذا دون وجود رقابة جادة ومحاسبة صارمة، فالمشهد الحالي يكشف غياب المتابعة، وكأن ملف التشجير والمسطحات الخضراء، تُرك يتيمًا بلا صاحب لسنوات عديدة، وإذا كان المقاول نفسه هو من تولى الزراعة والعناية بالمسطحات الخضراء في السنوات السابقة، فإن النتيجة الواضحة أمامنا تقول بجلاء إنه فشل فشلًا ذريعًا، وأقل إجراء يُتخذ هو البحث عن بدائل أكثر كفاءة، فليس من المنطق أن يُهدر الوقت والمال في تجارب مكررة بلا ثمرة.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف التشجير، من عمل ثانوي مؤقت إلى قضية تنموية كبرى تمس جودة الحياة مباشرة، وتستحق أن تُدار بعقلية جديدة وإرادة لا تعرف التهاون، فالدمام، المكتظة بالعمائر والطرقات والأرصفة والسيارات، غارقة في مشهد جامد من الحديد والإسمنت والحجر، وتكاد تخلو من اللون الذي يرمز للحياة، إنها مدينة بحاجة ماسّة إلى الأخضر؛ إلى الأشجار التي تظلل، والعشب الذي يلين قسوة الأرض، والماء الذي ينعش الروح، لتستعيد حقها في المشهد الطبيعي الذي يليق بتاريخها ومكانتها ومستقبلها.
ولعل ما قامت به هيئة تطوير المنطقة الشرقية بإطلاق دليل التشجير يضع بين أيدينا خارطة طريق جاهزة. فهذا المرجع، الذي بُني على دراسات دقيقة وواقع بيئي محلي، يقدم وصفًا تفصيليًا للنباتات الملائمة للمنطقة الشرقية، وطرق زراعتها والعناية بها وتنسيقها، إنه كنز معرفي متاح، وعلى بلدية الدمام أن تتعامل معه كأداة عملية لا كوثيقة نظرية، لتتحول المدينة من مشهد الإسفلت والصلب إلى فضاء أخضر نابض بالحياة.
ختامًا، أقول: إنني على يقين بأن بلدية الدمام، التي نؤمن أنها تحمل عشقًا أصيلًا للجمال، ستجعل منه همها الأول، لتعيد للمدينة ظلها الضائع، وتفتح صفحة جديدة من خضرتها المنتظرة.