كيف تسهم التجارب الدولية في تعزيز دور الشركات الاجتماعي لتحقيق مستهدفات رؤية 2030

حجم الخط |
- A+
- A
- A-
“نحن ننظر إلى القطاع غير الربحي على أنه قطاع مهم في دعم مسيرة التعليم والثقافة والصحة والبحث، وسنعتمد عليه بشكل رئيسي”، هذا التصريح من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – لا يعبّر فقط عن دعم معنوي للقطاع غير الربحي، بل يعكس تصورًا استراتيجيًا لاقتصاد المستقبل، حيث يصبح القطاع الخاص شريكًا أصيلاً في التنمية، وفاعلًا مباشرًا في تحسين جودة الحياة، من خلال أدوات تمويل ذكية ومستدامة، تتجاوز المبادرات الرمزية إلى التزامات مؤثرة.
في ضوء هذا التوجه، تتصاعد الحاجة اليوم لإعادة صياغة مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، ليس فقط كقيمة أخلاقية أو مبادرة مؤقتة، بل كـسياسة وطنية، وممارسة استراتيجية، وفلسفة اقتصادية وتنموية تُسهم في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وتعزز من التوازن بين النمو الاقتصادي والاستدامة المجتمعية.
التجربة الهندية الحديثة، كما وثقها تقرير “ساتفا – حالة المسؤولية الاجتماعية للشركات في الهند 2024” (Sattva – State of CSR in India 2024)، تُعد من أبرز التجارب الدولية في هذا المجال. فقد أظهر التقرير كيف ساهم الإطار التشريعي الهندي، والذي يُلزم الشركات الكبرى (ذات الأرباح السنوية التي تتجاوز 5 كرور روبية هندية) بإنفاق 2% من متوسط أرباحها خلال الثلاث سنوات السابقة على مشاريع ذات أثر اجتماعي وتنموي، في تحقيق نتائج ملموسة.
بحسب التقرير، بلغ حجم الإنفاق المجتمعي للشركات الهندية خلال السنة المالية 2023–2024م أكثر من 34,909 كرور روبية – أي ما يعادل نحو 4.1 مليار دولار أمريكي – بزيادة تقارب 16% عن العام السابق. وقد شاركت أكثر من 27 ألف شركة، منها 1,394 شركة مدرجة في بورصة NSE، في تنفيذ مشاريع اجتماعية، تركز أكثر من 33% منها على التعليم، و 23–38% على الصحة، و 17% على التنمية الريفية، و 7–11% على البيئة، إضافة إلى مجالات الابتكار وتمكين المرأة.
النقطة الجوهرية أن هذا التمويل لم يُترك عشوائيًا، بل تم توجيهه وفق آلية وطنية مرنة، تتيح التخطيط للمشاريع على مدى 3 سنوات، وتشجع الشراكات بين الشركات والحكومة والمجتمع المدني. وبذلك تحولت المسؤولية الاجتماعية من التزام أخلاقي إلى سياسة اقتصادية تنموية مدروسة.
في السعودية، ومع تنوع الاقتصاد وارتفاع أرباح الشركات في قطاعات حيوية، هناك فرصة كبيرة لتبنّي نموذج تمويلي مستدام مستلهم من هذه التجربة، عبر تخصيص نسبة مرنة ومدروسة من أرباح الشركات لدعم المشاريع المجتمعية ذات الأولوية الوطنية.
الفكرة لا تتعلق بإضافة عبء مالي على القطاع الخاص، بل بتمكينه من أن يكون فاعلًا حقيقيًا في التنمية، مع توجيه مساهماته نحو مستهدفات رؤية السعودية 2030 على سبيل المثال في الصحة، التعليم، البيئة، السياحة، التوظيف، والثقافة.
اليوم، تتوزع الشركات السعودية بين جهات تنظيمية مختلفة (التجارة، الطاقة، الصناعة، السياحة، الرياضة، الحج والعمرة، البنك المركزي…)، وكل منها يمارس المسؤولية الاجتماعية وفق رؤيته الخاصة، ما يؤدي إلى تكرار المبادرات، وتشتت الأثر، وصعوبة قياس الجدوى على المستوى الوطني.
يمكن لنا أن نتخيل لو تم توجيه هذه المبادرات والمساهمات التي تجتهد فيها الشركات ضمن مسؤوليتها الاجتماعية – والتي تُقدّر بمليارات الريالات – ضمن سياسة وطنية مرنة ومحوكمة، تُبنى على دراسات احتياج فعلية، وتُدار وتُنفذ بتعاون بين القطاعين العام والخاص بالتنسيق مع الجهات التنظيمية القائمة.
كم من فجوة يمكن ردمها في التعليم؟
كم من ابتكار صحي يمكن تطويره؟
كم من مشروع شبابي يمكن تمويله؟
وكم من مبادرة يمكن تحويلها إلى نموذج مستدام؟
بالتالي سنتمكن من تقليص الفجوات، وزيادة الأثر، وتوجيه التمويل نحو الحلول التنموية المستدامة وتندرج ضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة SDGs، عوضًا عن الحملات الرمزية التي بعضها لتحقيق أهداف إعلامية ذات أثر قصير مؤقت.
المسؤولية الاجتماعية في التعليم، يمكن أن تدعم هذه المساهمات المهارات الرقمية، التمويل الاجتماعي في تطوير المناهج، وبرامج الابتكار، وبرامج المواءمة مع لربط الخريجين بسوق العمل. وفي الصحة، تمويل الرعاية الوقائية والصحة النفسية والخدمات الذكية. أما السياحة، خصوصًا الدينية، فالمسؤولية الاجتماعية يمكن أن تُسهم في تدريب الكوادر، وتحسين الخدمات، وتطوير المحتوى الثقافي، بما يدعم مستهدف “رفع عدد المعتمرين” و”تحسين تجربة الزائر”. الصناعة والطاقة يمكن أن تواكبا التحول الأخضر، بينما يُسهم القطاع الرياضي في تحسين الصحة العامة وتعزيز التماسك المجتمعي.
نحن لا ندعو إلى إنشاء هيئة جديدة، بل إلى إطلاق سياسة وطنية للمسؤولية الاجتماعية، تحفّز الشركات، وتكافئ التميز، وتُرشد التمويل، وتُقيّم الأثر بعيدًا عن البيروقراطية، بوضوح وشفافية، ومرونة، تتيح تنافس بين المناطق والقطاعات، وتربط المسؤولية الاجتماعية بشكل مباشر بمستهدفات التنمية الوطنية.
ومن الشواهد المهمة على التوجه السعودي الريادي في هذا المجال، إنشاء أول مدينة غير ربحية في العالم، وهي “مدينة محمد بن سلمان غير الربحية” – المعروفة أيضًا باسم “مدينة مسك” – والتي أعلن عنها سمو ولي العهد في نوفمبر 2021، وتقع في العاصمة السعودية الرياض. هذه المدينة تمثل نموذجًا حيًا لتفعيل القطاع غير الربحي كقوة داعمة للتعليم والابتكار وريادة الأعمال الاجتماعية، وترجمة مباشرة لرؤية تُعيد تعريف العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع بطريقة تواكب الاحتياجات الحالية وتطلعات أجيال المستقبل.
وهكذا، تتحول المسؤولية الاجتماعية من مبادرة اجتهادية إلى رافعة استدامة، ومصدر ابتكار، وجزء من منظومة تمويل تنموي مستدام.
السعودية تملك المقومات لتقود هذا التوجه إقليميًا، وتبني نموذجًا محليًا فريدًا – سعوديًا في هويته، عالميًا في أثره – يعزز جودة الحياة، ويرسّخ مكانة القطاع الخاص كقوة تنموية في طريق رؤية 2030.