استثمار الدول في القوة الناعمة… الاقتصاد التعليمي فرص ضائعة تنتظر من يلتقطها

د. طلال المغربي
د. طلال المغربي

في عالم يشهد تغيرات جيوسياسية متسارعة، يتجدد الحديث عن أهمية القوة الناعمة كأداة استراتيجية في تعزيز المكانة الدولية، وجذب العقول، وبناء جسور التأثير الثقافي والاقتصادي. لكن في وقت تتراجع فيه بعض الدول في دعم أدوات قوتها الناعمة، تبرز دول أخرى تسابق الزمن لاقتناص الفرص وصناعة واقع جديد.

الولايات المتحدة – الرائدة تاريخيًا في تصدير القوة الناعمة من خلال التعليم والثقافة والإعلام – ارتكبت مؤخرًا خطأ استراتيجيًا بإقرار سياسات أكثر صعوبة في منح تأشيرات الطلاب الأجانب. هذه الخطوة أضعفت أحد أهم ركائز الدبلوماسية العامة الأمريكية، وأفقدت الجامعات الأميركية ثقة كثير من العقول العالمية، بل وأثرت على الاقتصاد التعليمي الذي يساهم بنحو 44 مليار دولار سنويًا، وفق إحصائيات عام 2020م.

على الجانب الآخر، دفعت حرب أوكرانيا معظم الدول الأوروبية نحو التركيز على القوة الصلبة بزيادة الإنفاق العسكري مقابل تقليص الدعم المخصص للمساعدات الدولية والتعليم والثقافة، وكل ما يمثل مظلة القوة الناعمة. هذا الانكماش أفسح المجال لقوى أخرى مثل الصين وروسيا لتتوسع بشكل لافت في استثماراتها في مجالات الإعلام والتعليم والمنح والمراكز الثقافية حول العالم، مستفيدة من الفراغ الذي تركته القوى الغربية.

وفق تقرير Brand Finance Global Soft Power Index 2024، تحتل أميركا وبريطانيا وألمانيا المراتب الثلاثة الأولى في القوة الناعمة، تليها الصين واليابان. وفي ظل المنافسة الإقليمية المتصاعدة، تواجه بريطانيا تحديًا حقيقيًا بعد تراجع أعداد الطلاب الدوليين بسبب تعقيدات التأشيرات، ما دفع العديد من المهتمين إلى المطالبة بحكومة المملكة المتحدة للاستيقاظ وإعادة النظر في سياساتها لتسهيل جذب الطلاب الأجانب، خاصة بوجود تعقيدات جذب الطلاب إلى جامعات أميركا وتخوف الآخرين من تعقيدات المطارات في الإيقاف والترحيل. المهتمين في الإعلام البرلمان البريطاني يطالبوا بالاستفادة من عراقة وقوة تاريخ الجامعات والتعليم الغالي والبحثي فيها.

أما دول الخليج، فقد بدأت منذ سنوات في الاستثمار في التعليم الدولي من خلال استقطاب فروع لجامعات عالمية في الإمارات وقطر والبحرين. الإمارات وقطر على سبيل المثال، تستضيف الكثير من فروع لتخصصات جامعيه دولية، منها:

1- جامعة نيويورك أبوظبي (NYU Abu Dhabi)، التي تستقبل طلابًا من أكثر من 120 جنسية.

2- جامعة السوربون أبوظبي (Sorbonne University Abu Dhabi).

3- معهد روتشستر للتكنولوجيا – دبي (RIT Dubai).

4- جامعة برمنغهام Birmingham  في دبي.

5- جامعة جورجتاون في قطر.

6- جامعة ليفربول جون موريس في قطر.

7- جامعة كارنيجي ميلون في قطر.

هذه الفروع الجامعية توفر بيئة تعليمية دولية تساعد في بناء القدرات البشرية، وتشكل محورًا مهمًا للقوة الناعمة في المنطقة، لكنها تغطي حاليًا نطاقًا محدودًا مقارنة بالإمكانات الكبيرة المتاحة.

وهنا، تبرز السعودية كحالة مختلفة وواعدة. بإطلاقها استراتيجية “ادرس في السعودية – Study in Saudi”،  تملك المملكة اليوم رؤية متكاملة لجعل التعليم العالي أحد أعمدة قوتها الناعمة. هذه الاستراتيجية تتقاطع مع مبادرات كبرى مثل استراتيجية السياحة الوطنية، التوسع في الربط الجوي، والانفتاح الثقافي، مما يعزز من قدرة المملكة على جذب الطلاب الدوليين وتوفير تجربة تعليمية وسياحية وثقافية متكاملة.

ولا يقتصر الأمر على الجانب الأكاديمي فحسب، بل يمثل التعليم الدولي بوابة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصًا في مجالات التعليم والابتكار والتقنيات الناشئة. فوجود بيئة تعليمية وبحثية عالمية المستوى يُعد عنصرًا جاذبًا للمستثمرين الباحثين عن منظومات معرفية تدعم تطوير الحلول، وتُمكن رواد الأعمال، وتفتح المجال أمام الوصول إلى المواهب.

تمتلك المملكة، بما تتمتع به من تنوع جغرافي واقتصادي، فرصة لتطوير نموذج تعليمي مرن يتيح استقطاب الجامعات العالمية لفتح فروع متخصصة في مناطق مختلفة، بما يتناسب مع طبيعة الموارد المحلية وفرص التنمية في كل منطقة. وبهذا، لا يقتصر الأثر على تنوع التعليم، بل يشمل تحفيز الحراك البحثي والابتكاري من خلال شراكات دولية، وتمكين رواد الأعمال المحليين والدوليين من تحويل المعرفة إلى مشاريع اقتصادية، وزيادة مساهمة الاقتصاد التعليمي في الناتج المحلي الإجمالي، وتعزيز الحراك السياحي المرتبط بالطلاب والزوار الدوليين، وخلق بيئة ثقافية مستقرة ومتنوعة من خلال التفاعل بين الجنسيات والعقول.

اليوم، يمثل الاقتصاد التعليمي أحد أسرع القطاعات نموًا عالميًا، ويُقدر أن يساهم بمليارات الدولارات في الناتج المحلي للعديد من الدول، مع أثر واضح على سوق العمل والتنمية الاقتصادية. والتعليم الدولي لم يعد مجرد أداة معرفية، بل تحول إلى نافذة للدبلوماسية، وجسر لبناء الثقة، ومحرك للنمو الاقتصادي المستدام، ومصدر لتأثير دولي ناعم عابر للحدود.

في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة، تبرز السعودية اليوم كفرصة استراتيجية حقيقية للاستثمار في القوة الناعمة، لا سيما من خلال قطاع التعليم. برؤية طموحة واستراتيجية متكاملة، تمتلك المملكة مقومات فريدة تؤهلها لتكون مركزًا إقليميًا وعالميًا لجذب العقول، وتنمية المواهب، وتحفيز الاقتصاد المعرفي. السؤال الآن: هل نشاهد قريبا من استثمار هذه الفرصة الكبيرة بجرأة وفعالية لتعيد صياغة خارطة القوة الناعمة في المنطقة والعالم في الاقتصاد التعليمي؟ الفرص واعدة، والرهان كبير على القرار لصناعتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *