الرأي
عقول غير مرئية… المصابين بفرط الحركة وتشتّت الانتباه
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
يشهد العالم في العقود الأخيرة تحولًا نوعيًا في الوعي باضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه Attention-Deficit/Hyperactivity Disorder (ADHD)، وهو اضطراب عصبي نمائي راسخ في الأدبيات العلمية، إلا أنّ أعدادًا كبيرة من المصابين به لا تزال تعيش دون تشخيص أو دعم منهجي. وبرغم تراكم الأدلة العلمية التي تؤكد طبيعته العصبية وتأثيره المباشر في عمليات الانتباه والتنظيم التنفيذي والانفعالات واتخاذ القرار، لا يزال الاضطراب يُفسَّر في العديد من المجتمعات باعتباره خللًا سلوكيًا أو ضعفًا في الانضباط، الأمر الذي يفاقم الوصم ويؤخّر الوصول إلى خدمات الرعاية المناسبة.
وتظهر تقارير جهات صحية دولية، مثل الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) ومنظمة الصحة العالمية، أن غياب التشخيص المبكر لا يقف عند حدود صعوبات التركيز والتنظيم، بل يمتد ليشمل مظاهر نفسية وانفعالية معقدة؛ من أبرزها القلق المزمن الناتج عن الإخفاق المتكرر في أداء المهام اليومية، وتقلبات المزاج، والحساسية المفرطة تجاه الرفض أو النقد (Rejection Sensitivity Dysphoria)، بالإضافة إلى اضطرابات النوم، وارتفاع الميل إلى السلوكيات ذات المخاطر العالية نتيجة الاندفاع غير المُنظَّم. وغالبًا ما تُفسَّر هذه الأعراض اجتماعيًا تفسيرًا خاطئًا بوصفها مشكلات تربوية أو سلوكية، رغم أنها انعكاس مباشر لاختلافات عصبية مثبتة علميًا.
وتنعكس هذه الإشكالات بوضوح في البيئات التعليمية، حيث يُساء تفسير السلوكيات المرتبطة بالاضطراب على أنها تمرد أو فوضى، ما يؤدي إلى معاقبة الطفل على ما لا يملك السيطرة عليه. وتشير التقديرات العالمية إلى أن انتشار الاضطراب يبلغ نحو 5% لدى الأطفال، ونحو 2.5% إلى 3% لدى البالغين، بينما تظل معدلات التشخيص الفعلي أدنى بكثير من معدلات الانتشار الحقيقية. وفي المنطقة العربية، تشير دراسات منشورة في مجلات علمية محكّمة إلى أن نسبة الإصابة تتراوح بين 4% و7% لدى الأطفال، بينما تقدَّر في السعودية بما بين 3.5% و7% للأطفال، و8% إلى 11% لدى طلاب المدارس. ويكشف هذا التفاوت عن فجوة واضحة بين حجم الحاجة الفعلية والقدرات التشخيصية المتاحة، خاصة في ظل نقص تدريب المعلمين وضعف جاهزية المؤسسات التعليمية للتعامل مع التنوع العصبي.
وتتداخل أعراض الاضطراب أحيانًا مع اضطرابات صحية أخرى قد تربك التشخيص، من أبرزها مرض السيلياك (Celiac Disease). فقصور اكتشاف المرض وغياب الوعي بمعايير الحمية الخالية من الغلوتين يعرضان المصابين لالتهابات مزمنة قد تسبب الإرهاق الشديد، وضعف التركيز، وتقلبات المزاج، والقلق، وهي أعراض قد تُفهم خطأ على أنها مشكلات نفسية أو سلوكية. كما يؤدي ارتفاع أسعار الأغذية البديلة وضعف توافرها إلى ضغوط اجتماعية ونفسية إضافية، ما يفاقم مشكلات الصحة النفسية ويزيد من احتمالات التشخيص الخاطئ.
ويبرز البعد الآخر لهذا الواقع في مرحلة البلوغ؛ إذ ظل الاعتقاد السائد طويلًا أن ADHD اضطراب يقتصر على الطفولة، قبل أن تثبت الأبحاث استمراره لدى ما يقرب من 3% إلى 4% من البالغين عالميًا. وفي بريطانيا، على سبيل المثال، أعلنت NHS عام 2025 أن نحو 2.5 مليون شخص يعانون من الاضطراب Adulthood ADHD ، بينهم 1.6 مليون فوق سن الخامسة والعشرين، ومع ذلك لا يحصل سوى واحد من كل تسعة على تشخيص رسمي. وتشير بيانات واسعة النطاق مستندة إلى ملايين السجلات الصحية إلى أن نسبة التشخيص المسجّل لا تتجاوز 0.32%، فيما تُقدّر منظمات مختصة أن أكثر من 80% من البالغين المصابين لا يدركون إصابتهم.
وفي بيئات العمل الحديثة، يتحول غياب التشخيص إلى مصدر ضغط نفسي ومهني بالغ؛ إذ يعاني الموظف غير المشخَّص من صعوبات في التنظيم والمتابعة والانتباه، ما يجعله عرضة لسوء الفهم والتقييم السلبي، وقد يصل الأمر إلى فقدان الوظيفة رغم امتلاكه قدرات عالية غير مستثمرة. وتجدر الإشارة إلى أن دراسات من جامعات مرموقة، مثل هارفارد، تؤكد ارتباط الاضطراب بمستويات عالية من الإبداع والابتكار والقدرة على التركيز العميق في مجالات الاهتمام، ما يجعل دعم المصابين استثمارًا استراتيجيًا في رأس المال البشري.
أما الكلفة الاقتصادية لعدم التشخيص فهي كبيرة وممتدة؛ إذ تشير تقديرات عالمية إلى أن الخسائر السنوية المرتبطة بغياب التشخيص تتراوح بين 300 و450 مليار دولار، نتيجة تراجع الأداء الدراسي والمهني، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة الاعتماد على الخدمات الصحية والاجتماعية. كما تُظهر البيانات الأوروبية أن التكلفة السنوية للفرد البالغ غير المشخّص تتجاوز 15 ألف يورو، بينما تقدّر التكلفة السنوية لعدم علاج الأطفال في الولايات المتحدة بنحو 19 مليار دولار. وفي بريطانيا وحدها، تُقدّر الخسائر الاقتصادية بـ 17 مليار جنيه سنويًا، تشمل انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.
ورغم التقدم الهيكلي في النظام الصحي البريطاني، لا تزال البلاد من أبطأ الدول الأوروبية في تشخيص البالغين، إذ تمتد قوائم انتظار NHS لسنوات في بعض المناطق، ما يدفع الكثيرين إلى اللجوء للقطاع الخاص أو البقاء دون تشخيص. وقد أثبتت التجارب الدولية – مثل كندا والسويد وأستراليا – أن الاستثمار في فهم اضطراب ADHD وتطوير سياسات شاملة للتعامل معه يسهم في تعزيز الأداء التعليمي والمهني والاقتصادي على حد سواء، بينما تدفع الدول التي لم تُطوّر بعد منظومات تشخيصية فعالة ثمنًا اقتصاديًا واجتماعيًا متزايدًا.
ويُعد النظام القضائي البريطاني من الأنظمة التي تنبّهت مبكرًا لأهمية الاضطراب؛ إذ أدرجت إرشادات Sentencing Council منذ عام 2020 ADHD ضمن العوامل المؤثرة عند النطق بالأحكام، نظرًا لاحتمال تأثيره في الاندفاع وعلى الوعي بالمخاطر والتنظيم الذاتي وإدراك الخطر، مشترطة تقديم تقارير متخصصة من استشاريين في الطب النفسي الجنائي الشرعي(Forensic Psychiatrist)، لضمان الدقة والحياد. هذا التعديل شكّل اعتراف مهم بأن السلوك البشري لا يمكن فهمه أو الحكم عليه بمعزل عن الخلفية العصبية والنفسية للفرد.
وتؤكد هذه التجارب أن التعامل مع التنوع العصبي ليس التزامًا طبيًا فحسب، بل هو خيار استراتيجي يؤثر مباشرة في رفع القدرة التنافسية وتعزز الابتكار والتنمية. وتشير التوصيات الحديثة إلى ضرورة دمج مفهوم التنوع العصبي في السياسات التعليمية والمهنية والقضائية، وتوسيع برامج التدريب للأطقم التعليمية والوظيفية، وبناء مسارات تشخيص شاملة تراعي الجوانب العصبية والسلوكية والغذائية، وتوفير خطط دعم فردية وتهيئة بيئات تعليمية وعملية صديقة للتركيز والتنظيم.
إن اضطراب ADHD، والسيلياك، وغيرهما من الاضطرابات الخفية، تذكّر بأن السلوك الإنساني لا يمكن فهمه بمعزل عن الأسس البيولوجية والعصبية التي تشكّله. وإن إغفال هذه الحقائق لا يؤدي إلى معاناة فردية فحسب، بل يفضي كذلك إلى خسائر اقتصادية وتنموية متراكمة. ومن ثمّ، فإن تبنّي إستراتيجية وطنية شاملة للتشخيص المبكر والدعم المتخصص يمثل ضرورة ملحّة لضمان مجتمع أكثر قدرة وقوة على استثمار وتمكين موارده البشرية تسمح لكل فرد بأن يعمل ويتعلم ويعيش وفقًا لقدراته الحقيقية، لا وفقًا لما يُتوقع منه من الخارج والمقارنات والمجتمعية.
