الرأي

الشرق الأوسط بين المفاعلات النووية والدبلوماسية السعودية

عبدالله البراق

باحث وكاتب في الشؤون السياسية والأمنية

منذ أكثر من عقدين من الزمان والشرق الأوسط على صفيح ساخن، توشك نيران الحروب أن لا تنطفئ فيه أبدا، فإن أخمدت في جهة اندلعت في جهة أخرى، وقد لحق الضرر بمعظم دوله من الناحية الإقتصادية، والأمنية، وتدهور مستوى المعيشة، الذي كان له انعكاسا واضحا وملموسا لبقية دول العالم التي عانت اقتصاديا وإرتفاع مستوى الغلاء في المعيشة. وقد تطورت الأوضاع في الآونة الإخيرة، وزادت نسبة الخطورة بعد الصدامات المباشرة والغير مباشرة بين دول نووية ودول شبه نووية، وخاصة منذ أن بدأت حرب غزة، وتبعتها الحرب الإسرائيلية-الإيرانية والتي أوشكت رقعتها أن تتسع وتتجه إلى ما لا يمكن تخيله من الدمار والفوضى التي ستخلفها.

وأصبح الأمر في غاية الخطورة، وكان التدخل سريعا من المملكة العربية السعودية التي تحركت بثقليها الإقليمي والدولي وبخبرتها الكبيرة في فن إدارة العلاقات الدولية لفض النزاعات وإعادة الأمور الى نصابها، وواجهت هذه التحديات بسياسة حازمة، تفرض بها رؤيتها على المنطقة التي تعيد الإتزان لمعظم دول الشرق الأوسط، ورسمت لها خارطة الطريق للسلام وبناء المستقبل.

فالدبلوماسية السعودية ليست وليدة الحدث، بل هي الدبلوماسية العريقة والمخضرمة والشاهدة على الأحداث العالمية والمؤثرة فيها، وهي إدارة علاقات دولية من الطراز الرفيع، إدارة ناجحة، لها تأثير كبير في الرأي العالمي تجاه الكثير من القضايا الحساسة التي تتناول الأمن والإقتصاد، فمن عاصمتها الرياض استطاعت تغيير الرأي العالمي تجاه قضايا سوريا الجديدة، وتم الإعلان عن رفع العقوبات عن سوريا من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تلك العقوبات التي امتدت الى عقود من الزمان، ويعد ذلك ثمرة للجهود الدبلوماسية السعودية، ومنحت على أثرها الفرصة العظيمة لإعادة إعمار سوريا، ودعمها إقتصاديا وتنمويا، كما كان لها الدور الكبير في إنها الحرب الأهلية اللبنانية وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها، فمن مصافها الطائف تم إتفاق الطائف بين الفرقاء المتنازعين في لبنان عام 1989م، ذلك الاتفاق الذي حمل اسم المدينة السعودية مدينة الطائف، والذي امتدت بعده جسور المساعدات الإنسانية والإغاثية، مع المساعي المستمرة لتعزيز أمن لبنان واستقراره، ودعم سيادة الدولة، والمساهمة في حل الأزمات السياسية،
وفي عام 2025م كان للمملكة العربية السعودية دور محوري في كسر الجمود الرئاسي، ودعم الإصلاحات الجديدة، وكانت المفاوضات التي قادها وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، حاسمة في التوصل إلى توافق لانتخاب جوزيف عون رئيسًا للبنان، والذي اختار الرياض كأول وجهة دولية له بعد توليه المنصب.

وأما القضية الفلسطينية فقد كانت القضية الأولى لدى المملكة العربية السعودية، وتبنتها من يومها الأول ورسمت لها طريق السلام، وأطلقت من أجلها المبادرات على مر العقود، والتي من أشهرها مبادرة السلام التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود  للسلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين في عام 2002م. وقد تم الإعلان عنها في القمة العربية في بيروت. وقد نالت هذه المبادرة تأييداً عربياً، هدفها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل، وفي عام 2025م، انطلق المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين، برئاسة سعودية – فرنسية، وبمشاركة العشرات من زعماء العالم، في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وسط اعترافات تاريخية بدولة فلسطين.

وقالت المملكة العربية السعودية خلال المؤتمر الدولي الرفيع المستوى لتسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين الذي أقيم برئاسة مشتركة بين المملكة وفرنسا، إن تتالي اعترافات الدول بفلسطين يؤكد الإجماع الدولي على الحق الأصيل للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته، والعيش على أرضه بأمن وسلام، وتحقيق تطلعاته في الاستقرار والازدهار.

وذلك بعد اعتراف فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا وسان مارینو بالدولة الفلسطينية، وتبعها بعد ذلك المملكة المتحدة، وكندا وإستراليا والبرتغال، وقد بلغ عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين إلى 150 دولة، ولم يقف الدعم للقضية الفلسطينية على الصعيد الدولي فقط، بل ان السعودية سعت لترميم البيت الداخلي الفلسطيني، ورعت بقيادة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، اتفاق مكة بين حركتي “حماس وفتح” في مدينة مكة المكرمة، عام 2007م، بعد مداولات لمدة يومان وتم الأتفاق على إيقاف أعمال الاقتتال الداخلي وتشكيل حكومة وحدة وطنية.

ولم يقف أثر الدبلوماسية السعودية على دول الشرق الأوسط فحسب، بل كان له الأثر الكبير في نزع فتيل الحرب بين قوتين نوويتين هما الهند وباكستان وتهدئة الأوضاع بينهما، إذ أن العداء بينهما تأريخي وقديم، ومعقد، له العديد من الأطراف، طرف حدود، وطرف عقدي، وطرف تنافسي، ففي حادثة بولواما 2019م، التي شهدت المنطقة توترا عسكريا بين الدولتين، كان الدور البارز الذي قام بتهدئة التوتر، وخض مستوى التصعيد، هو الدور السعودي، حيث لعبت دورًا دبلوماسيًا رئيسيًا بهدف احتواء الأزمة وتهدئة التصعيد بين الدولتين النوويتين، أرسلت وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير في أواخر فبراير 2019م في زيارات عاجلة لكل من إسلام آباد ونيودلهي، حاملاً رسالة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وذلك في محاولة لإنهاء التوتر الذي أعقب الغارات الجوية الهندي،.
واستضافت السعودية في غضون شهر واحد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ثم رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك عمران خان، في إطار جهود الوساطة وتهدئة الأزمة، وحل النزاعات بالحوار السلمي، وفي الحرب بين الهند وباكستان عام 2025م، لعبت السعودية دورا رئيسيا في الوساطة الدبلوماسية لوقف التصعيد، وضبط النفس، وإنهاء الحرب، وأرسلت الوفود الدبلوماسية رفيعة المستوى لكلا القوتين والتي أسفرت عن نزع فتيل الحرب بينهما.

هذا مختصر لبعض المواقف الدبلوماسية السعودية التي لم تقف عند هذه الحدود بل تجاوزت ذلك الى الحد الذي يتعارض مع مصالح قوى نووية، وأرغمتها برؤيتها العادلة للمنطقة ومستقبلها، وقد مثل الأستاذ القدير غسان شربل رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط في لقائه أن السعودية تمتلك ترسانة دبلوماسية، وهي كما ذكر، وقد اذهب بعيدا وأشبهها بالدبلوماسية النووية، وأضع عنوان آخر للمقال وهو ( الشرق الأوسط بين المفاعلات النووية والدبلوماسية النووية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات