ثُلاثيةُ الثَرَاء اللبنانيّة وسِرُّ الرأسماليّة*

ما السّرّ الذي يجعل معظمَ اللبنانيّين يحققون ثروات لافتة في وقتٍ قصير عند انتقالهم إلى دول الخليج؟ سؤالٌ يتردد كثيرًا، لا سيما حين يُقارن أداؤهم الاقتصادي بجنسيات أخرى تعيش في نفس البيئات وتملك فرصًا متشابهة، وربما حتى امتيازات أفضل أحيانًا. لكن الفارق يتجلّى في ما وراء الفرصة: في الذهنية، والتخطيط، وطريقة الدخول إلى السوق، والقدرة على استثمار العلاقات والمواقف بكفاءة عالية. لا نتحدث هنا عن جميع اللبنانيين بالطبع، ولكن عن ظاهرة متكرّرة تستحق التأمل، وتتجاوز حكايات الأفراد إلى بنية ثقافية واقتصادية تشبه أن تكون وصفة ثراء.

يكمن السرّ في ثلاثيةٍ سلوكية ذكيّة توارثتها أجيال من اللبنانيين المهاجرين، وتمكّنوا من صقلها وتطويرها لتكون بوّابتهم لاختراق الأسواق وتحقيق الثروة. الثّلاثية تبدأ بفكرة جوهرية: “كَوِّن شيئًا معتبرًا”، ليس بالضرورة رأس مال مالي، بل شيء يُراهن عليه: معرفة نادرة، شهادة محترمة، صنعة متقنة، علاقات وازنة، خبرة تجارية، فكرة مشروع مُحكمة. التكوين هنا لا يعني التكديس، بل بناء الأصل المعرفي أو المهاري أو الاجتماعي الذي يُمكن تحويله لاحقًا إلى قيمة مضافة قابلة للتفاوض والاستثمار والمشاركة.

بعد التكوين، تأتي المرحلة الثانية: صناعة البرواز الذهبي. وهي ليست ترفًا شكليًا، بل استراتيجية تسويقية ذكيّة قائمة على علم الانطباع الأول. معظم اللبنانيين الناجحين يعرفون أن الناس تتعامل مع الصورة قبل المضمون، وأن السوق في الخليج – كغيره – تحكمه ثقافة الطبقة والانطباع والواجهة. فيلبسون البرواز الذهبي: مظهر أنيق، لغة واثقة، سلوك اجتماعي منفتح، ظهور في أماكن النخبة، تواصل ذكي، عرض مبهر لما يحملونه. لا يخدعون، بل يُجيدون التغليف الجاذب لما يمتلكونه فعلًا، ويعرفون كيف يُثيرون شهية السوق.

ثم تأتي الركيزة الثالثة: مُصاحبة الأثرياء بمشروع جاهز. لا يكتفون بالحديث في الصالونات أو التقرب الاجتماعي، بل يدخلون دوائر المال بفكرة مشروع متكاملة، مبنية على ما “كوّنه” الشخص من أصل معرفي أو مهاري. يقترب من الثري، ويعرض عليه المشروع، لا كموظف أو طالب تمويل، بل كشريك مفكر، لديه خطة، وجدوى، ورؤية. وإذا ما تم الاتفاق، فهو يدخل شريكًا بنسبة مُثرية دون أن يملك رأس المال، لأنه يملك الفكرة والخبرة والتنفيذ، ويصبح صديقًا للثري لا تبعًا له. ومن هنا تبدأ شبكة الثراء بالتوسع: صديق يُعرف بصديق، وعمل يلد عملاً، واستثمار يفتح أفقًا لاستثمار.

هذه الثلاثية ليست مجرد حيلة، بل تعكس عمقًا فلسفيًا واقتصاديًا نادرًا، يمكن أن نربطها مباشرة بجوهر الرأسمالية نفسها. فالرأسمالية – في أصلها – ليست مجرد نظام اقتصادي قائم على رأس المال، بل على خلق رأس المال من أي شيء يمكن تحويله إلى قيمة اقتصادية. والفعل الرأسمالي يبدأ بـ”التكوين” كما سبق: كوِّن شيئًا تنتجه أو تملكه أو تتقنه. ثم يأتي التغليف، تمامًا كما تُسوّق الشركات منتجاتها بغلاف جذّاب. ثم التفاوض والشراكة والاستثمار الذكي. فكما أن الرأسمالية تكافئ من يملك الفكرة، فإنها أيضًا تفتح أبوابها لمن يُتقن تسويقها وتنفيذها وتحويلها إلى مشروع استثماري.

ما يفعله معظم اللبنانيين هو ترجمة حية – وذكية – لهذه الفلسفة. إنهم لا ينتظرون “الوظيفة”، بل يكوّنون ما يجعلهم فوق الوظيفة. لا يسوّقون أنفسهم كمجرد “باحثين عن فرصة”، بل يظهرون كصانعي الفرص. لا يدخلون في لعبة السوق كضحايا، بل كلاعبين أذكياء يفهمون قواعد اللعبة، ويعرفون كيف يكسبونها دون ضجيج.

الدرس هنا ليس في جنسية بعينها، بل في الذهنية التي تتبناها. كل شخص يستطيع أن يكوّن شيئًا، أن يصنع لنفسه بروازًا محترمًا، وأن يطرق أبواب الثراء بفكرة واثقة. لكن الفارق أن من يُتقن الثلاثية – تكوين الأصل، صناعة البرواز، عرض المشروع على صاحب رأس المال – يختصر المسافة نحو الثروة بعقل رأسمالي خالص، حتى لو لم يملك ريالًا واحدًا في البداية.

في النهاية، ليست الرأسمالية مجرّد نظام اقتصادي، بل طريقة تفكير. وهي تُكافئ من يعرف كيف “يُكوِّن”، كيف “يُقدِّم نفسه”، وكيف “يُقنع الآخر بالمشاركة”. وما يفعله معظم اللبنانيين في دول الخليج هو ببساطة: درسٌ تطبيقي حيّ في أسرار الثّراء.

رد واحد على “ثُلاثيةُ الثَرَاء اللبنانيّة وسِرُّ الرأسماليّة*”

  1. يقول عزالدين يس صالح قاسم:

    يمكن هذا مشاهد في الخليج ولكن اشاهدهم في أوروبا أناس عاديين ولديهم محال تقليدية أغلبيتها مطاعم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات