الرأي

جُرش… مدينة الصناعة والتطوير والاختراع

د. سليمان الذييب

كاتب ومؤرخ وأستاذ الكتابات العربية القديمة

أسعدني كعادته الأخ العزيز الدكتور “جاسر بن سليمان الحربش” الرئيس التنفيذي لهيئة الآثار وأضيف إليها المتاحف فمهما عاند الأخوة في وزارة الثقافة، فلا شك عندي أن الفرع سيعود يومًا إلى الأصل. إذ لا يمكن اقتطاع بشكل عشوائي كلية إنسان ومن ثم تطالبه بالإبداع.

أقول أسعدني كثيرًا اقتراحه ليّ زيارة موقع -عندي- من أهم المواقع الإسلامية في المملكة، كنت آمل في زيارته والعودة إلى الوراء “بركوب مركبة الزمن” والاطلاع على المجتمع الجُرشي، الذي أمتاز عن غيره من مجتمعات المدن -آنذاك- في شبه الجزيرة العربية، بل والإسلامية بصناعاته الحربية -كما بيت ذلك المصادر الإسلامية- فقد كانت جُرش الممول الرئيس لهذه الصناعات “الجلدية والحربية”، والأخيرة تضمنت المنجنيق والعرادات (المعروفة باسم الدبابات) في تلك الفترة وامتازت بجودتها وتطورها.

ومع رغبتي الشديدة في زيارة الموقع إلا أني لم أعرف أنه في محافظة أحد رفيدة ولا يبعد عن مدينة الجنوب التجارية “خميس مشيط” إلا “15 كم” فقط.

وتعود معرفتي بالموقع إلى أستاذنا “عبدالكريم بن سحيم الغامدي” الذي أعد رسالته للدكتوراه عن التغيرات البيئة في جُرش عبر التاريخ على ما أذكر، إضافة إلى ما اسمعه من الأخوة عن أهمية هذا الموقع في الصناعات الحربية.

وعاد الموقع إلى الواجهة بعد أن تقدم مؤرخ أميركي لتنقيب في الموقع، فأعد لترويج لمشروعه لقاءين، الأول: عُقد في قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود، والثاني: في منزل نائب السفير الأمريكي -على ما أذكر- وفي الثاني ألتفت -بعد انتهاء عرض المؤرخ- إلى زميل وأخ كريم كان وقتها يعمل في هيئة السياحة والآثار ويتقلد منصبًا رفيعًا فيها، وقلتُ له: “أصدقك القول إن نية هذا الأميركي ليست طيبة” فاندهش من قولي، وأكملتُ حديثي: هذا الصديق يعلم أن العرب يمقتون الصناعة ولا يحبذونها ويرون فيمن يزاولها عيبًا كبيرًا، مثل الأخوة الأنباط في بداياتهم، ولأن المدينة مدينة صناعية خصوصًا الحربية، بل وتطويرها. لذلك ظن أن الذي يقف وراء هذه الصناعة وتطويرها ليسوا العرب، بل العنصر العبراني اليهودي، ويريد أن يؤكد هذا القول من خلال هذه التنقيبات”.

إلا أن تنقيباته في موسمين لم تثمر عما يريد، فتراجع عن الاستمرار في التنقيب ظانًا أنه ليس موقع جُرش المشهور. لكن زميلنا الآثاري المتميز “عوض الزهراني” أثبت بعد التنقيب ثراء الموقع، فقد تبين لاحقًا أن صاحبنا وفريقه لم يوفقوا في اختياراتهم لأماكن التنقيب، إحداها “مكب المدينة”؛ وعكست المعثورات والوحدات المعمارية نجاح “عوض الزهراني”، وفريقه الرائع. وأهم هذه الوحدات المعمارية: “المسجد ذو الأعمدة” (الذي بُني على أنقاض حصن أو معبد قديم يعود إلى فترة ما قبل الإسلام)، إضافة إلى المعثورات الفخارية الملونة وغير الملونة، منها المزجج، وأغلبها عليه زخارف جلها مصنوع بالعجلة (الدولاب) (قدور، وجرار، أواني، أطباق)، والمعدنية (ملاعق، أزاميل، إبر، مسامير، عملات)، والحجرية الصابونية والرخامية (مسارج، مغازل، مصافي، مباخر، مساحن، أواني، أدوات دق وسحن) والخزفية (خرز) والزجاجية (فوهات وحواف متعددة الألوان والأحجام، خواتم، أواني)، وأخشاب وعظام… إلخ.

ومن خلال الزيارة الطيبة التي كانت في يوم ماطر جميل، واللقاء بإخوة أعزاء طيبين حريصين على تأدية أعمالهم بما يحقق الخير لمحافظتهم ووطنهم (الأبناء: أحمد آل عواض، وعوض القحطاني، وعبدالله الأحمري، وملاك العمري)، تبين ليّ أن الموقع بأيد أمنية، وأبرز ما لفت انتباهي: الموقع الأثري، ومركز الزوار، الذي يحتاج إلى عرض مزيد من معثورات الموقع، والتنظيم اللافت فقد مكن هذا التنظيم الزائر مشاهدة الوحدات المعمارية للموقع عن قرب. وهو ما نفتقده في عدد من المواقع الأخرى، فلا يتيح المسئولين عن هذه المواقع للزوار الاستمتاع بالموقع ووحداته المعمارية ومعثوراته، إذ لا يسمح للزائر الاقتراب من الوحدات المعمارية الأثرية (معابد، مقابر وغيرها) بحجة واهية، هي حماية الآثار، “كلمة حق اريد بها باطل”، إذ يجب إلزام هذه الجهات تهيئة الموقع للزيارة بشكل واضح لا لبس فيه.

وتهيئة موقع جُرش الجيدة سمحت للزائر الاطلاع على الوحدات المعمارية، وأهمها: “المسجد ذو الأعمدة”.

وآمل أن تتبنى هيئة الآثار والمتاحف مشروعًا ثقافيًا يقام في صيف كل عام يتضمن محاضرات وورش عمل وتدريب لأبناء المنطقة والراغبين من الزوار، يسمى: “ملتقى جُرش الثقافي”، فسكان المنطقة أدوا دورًا ملحوظًا في الجدار الحضاري الإسلامي، فقد امتازوا بالصناعات الحربية العمود الفقري للجيوش آنذاك، فهي تعادل اليوم مدينة ديترويت عاصمة صناعة السيارات في أمريكا؛ وقد ذكرت المصادر أن قريشًا ترسل (تبعث) أبنائها لتعلم صناعة الأسلحة في جُرش. ولا أظن أن سمو وزير الثقافة كعادته إلا داعما لهذه الفعاليات ومساندًا لها.

أعادت ليّ هذه الزيارة عن طريق مركبة الزمن مشاهدة وتخيل ذلك المجتمع الجُرشي العظيم، فأمشي في طرقات الموقع وأسمع أصوات الضرب والدق وهي تفصح عن تصنع وتنتج أسلحة أدت دورًا في الفتوحات الإسلامية وفي استقرار الخلافة الإسلامية، فمعيض يشرف على سلامة المنجنيق، وسالم ورفاقه (سعيد وعيضة وعمار، وسعد وغيرهم) يصنعونها، وشريف ورفاقه (هادف وسفر ومسفر وغيرهم) يديرون مصانعها، وظافرة ورفيقاتها (رزنة وريناد، وملاك) يشرفن على راحة هؤلاء الذين أدخلونا التاريخ من أوسع أبوابه، ويسوقن منتجاتهم.

كان جوًا مفعمًا بتاريخ يُفتَخر به، كيف لا وأنتَ في جُرش، لستَ أمام وحدات معمارية كما في الكثير من المواقع الأثرية وحسب، بل في مدينة ذات حركة مشعة ما بين صناعة وتطوير واختراع، فيا له من مجتمع مثمر.

أفلا يستحق هذا المكان الذي مع الأسف الشديد بسبب التطور المعماري لبلادنا الراقية تقلصت مساحته إلى حد كبير- أقول آلا يستحق وقفة ثقافية تشعل حاضر المملكة ومستقبلها أتمنى ذلك.

رد واحد على “جُرش… مدينة الصناعة والتطوير والاختراع”

  1. يقول مقال فريد متفرد ممتع عرضا وموضوعا:

    دكتور محمد جلال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات