نوستالجيا

سجى آل رحمه

في ذلك اليوم، كنت أراقب والدتي المنهمكة في ترتيب غرفتها، كانت تعبث في خزانتها، تحديداً تلك التي تضم ألبومات لصور قديمة، المرتّبة حسب الخط الزمني من الأسفل للأعلى، من الأقدم إلى الأحدث، كل ألبوم يحمل حكاية مختلفة، يحكي القصة بسردية متسقة مع الحدث، وعليك أن تقرأ أحداثها بين لفتات وجنبات ملامح الشخوص والأماكن التي تسكن الصورة..

ذلك الوقت كان وقتي المفضل، وعادتي الأقرب إلى القلب، لحظة لا تشبه أي لحظة، كأن شريط الزمن يعيد نفسه ببطأ وعمق مختلف.

ناولتني والدتي مبتسمة ألبوماً  كان لأحد رحلاتنا العائلية في عام 2003، إلى إحدى الدول المجاورة، وما إن بدأت في تقليب صفحاته، حتى أخذت الغرفة تموج من حولي بضجيج الذكريات، وبدأت أغرق تدريجياً في صمت مطبق، كانت الصور كبوابات زمنية تُفضي بي إلى نسخ قديمة من نفسي.

لم تكن المرة الأولى التي ينتابني فيها هذا الإحساس المراوغ، الحنين أو ما يُعرف بالنوستالجيا.

النوستالجيا، مصطلح إغريقي الأصل، تصفه المعاجم بأنه “حنين عذب ممزوج بالألم”، لكنه في الحقيقة أكثر من ذلك، إنه توق لأنفسنا القديمة لتلك النسخة العفوية، الخفيفة، الغير مثقلة بأسئلة الحياة، ولا أقنعة النضج، نسخة ضحكت كثيراً، وخافت قليلاً، وقطعت مضمار الحياة بروح مغامرة لاحدود جغرافية لحماستها وعنفوانها.

دوستويفسكي يقول:”الذكريات مؤلمة، سواء كانت سعيدة أو حزينة” وأنا أقول: الحنين للذكريات مؤلم، لأنه لايملك رفاهيه إعادة الزمن فحسب، بل قسوة استحضار ما لا يعود.

ربما يكون الحنين للماضي حيلة دفاعية يمارسها العقل بلا وعي، في محاوله لرفع الحالة المزاجية، أو خلق توازن شعوري، كأن العقل يستحضر مشاهد من فرط جمالها تم استهلاكها مراراً وتكراراً حتى بهتت.

حتى مع النوستالجيا والحنين، يبقى جمال تلك اللحظات ثابت وكامل، لأنها كانت ببساطة المرة الأولى، اللحظة الأصدق، الأشد نقاء، الأكثر دهشة، هي التي لم نرتب لها، ولم نتوقعها، فكانت عذبة، كاملة، حقيقية.

أغلقت ألبوم الصور وأعدته إلى والدتي، بينما تساءلت في داخلي: هل ستغدو أيامي التي أعيشها الآن ذكرى أخرى أعاني منها نوستالجيا الحنين لاحقاً؟  وهل سأعود إليها يوماً، وأبتسم كما ابتسمتُ اليوم، بينما أقلب ذاتي القديمة بين صفحات الصور؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *