بكم تبيع أخاك؟ — وقفة على ميزان العقاد

حجم الخط |
- A+
- A
- A-
قيل في المأثور:
قال أحدهم: “بكم بعت أخاك؟”
قال الآخر: “بتسعين زلة.”
فقال الأول: “أرخصته!”
فما هذا المثل إلا مرآة صافية لأخلاق الناس في سوق العلاقات، حيث تعرض القيم في مزاد، وتُنادى عليها الأهواء والمزاجات. ومن تأمّله كما يتأمّل العقّادُ شواهدَ النفس في مرآتها، أدرك أن هذه “الزلات التسعين” لم تكن مجرد هفوات، بل كانت امتحانات صبر، ومحطات ولاء، ومقامات إخاء.
تسعون مرةً تجاوز فيها عن زلة أخيه، ثم جاءت الحادية والتسعون فأودت بكل شيء.
فهل كانت هذه الزلة الأخيرة أثقل من جميع ما سبق؟
أم أن القلب تعب، كما تعب قومٌ من الجهاد النفسي، فباعوا أثمن الناس بأبخس الأعذار؟
قال العقاد في “ساعات بين الكتب”: “الوفاء ليس مزيّة عند البعض، بل هو ضرورة عند الكاملين. لأن الكامل لا يطيق أن يُجرّد نفسه من المعاني التي تُكمّله.”
فإذا كنت قد وفّيت لأخيك في تسعين موقفًا، ثم فرّطت فيه بعدها، فهل كنت وفيًا، أم متردّدًا في قناعته به؟
ولو أنك عرفت من الناس من باع أباه بزلة، أو أمه بنظرة، أو صديقه بإشاعة، أو زوجه بظنّ، لأدركت أن بعض القلوب ما عرفت الوفاء إلا عند الموت، وما عرفت قدر الناس إلا إذا غابوا، أو غاب منها العقل والضمير.
إن العقاد – وهو القائل في “عبقرية عمر” –: “إن كظم الغيظ عند القوة لا عند الضعف هو خلاصة مكارم الأخلاق”،
يفتح لنا باب التأمل في: كيف تكون العظمة في ضبط النفس، لا في الانتصار لها.
ومن ذا الذي لا يخطئ؟ بل من ذا الذي نطلب منه الكمال؟
وقد قالها العقاد مرة بصرامة المُفكِّر:
“من طلب الكمال في الناس، بقي وحيدًا”.
فلننظر، بكم بعنا؟
•بكم بعنا صديقًا صادقًا؟
•بكم بعنا أختًا حنونًا؟
•بكم بعنا أبًا عطوفًا أو أمًّا دافئة؟
•بكم بعنا الزوجة التي صبرت، أو الزوج الذي قدّر؟
ويا ليتنا بعناهم بخيانة صريحة، أو طعنة قاسية!
بل بعناهم بسوء ظن، أو غيبة، أو وشاية، أو انفعال عابر، أو زلة من أنفسهم كان أولى أن نسترها، لا أن نجعلها سلعة البيع.
قال العقاد: “الناس ينسون الحق إذا تعلق بأشخاصهم، ويذكرونه إذا تعلق بغيرهم.”
وها نحن ننسى ما كان لنا عند فلان من المعروف، ونتذكّر فقط ما كان منه من التقصير.
وننسى أننا نحن أيضًا مملوؤون زللاً، لو حوسبنا عليه لتخلّى الناس عنّا جميعًا.
أفلا نرفع أسعار من بقي من أحبابنا؟
أفلا نغلّ ثمن الإخوة في قلوبنا؟
أفلا نُعيد للناس مكانتهم قبل أن نندم، ونبكي، ونقول: “ليتني لم أُفرّط”؟
أفلا نُعيد الكرام إلى صدورنا قبل أن تملأ قبورهم أرضنا؟
أما سمعت قول الله عز وجل: “والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين”
وهؤلاء “الناس” إنما هم الغرباء، فكيف بـالأخ، والوالد، والزوج، والصاحب؟
إن الحياة – كما قال العقاد – “ليست بما نأخذ منها، بل بما نُبقي فيها من المعاني.”
فلنُبقِ في حياتنا معنى الوفاء، ولنتذكّر دائمًا أن بعض القلوب لا تُعوّض…
ولا تُشترى بعد أن نبيعها!
دمتم بمودة…