قيادة لا تنسى.. وأثر لا يمحى..

حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في البدء كانت العربية… لغةً لا تشبه غيرها، بلاغةً تنبض بالحياة، ومنهجًا يُهذّب الفكر ويرتّب الوجدان.
هي التي اتسعت لآيات التنزيل، وارتقت بفكر الفلاسفة، وصاغت عقول العلماء، ورسمت خرائط الحضارة منذ أندلسٍ تلألأت مدائنها، إلى بغدادٍ فاضت أسواقها علمًا ونحوًا وحديثًا وشعرًا.
في العربية، لا تكون الكلمة مجرّد أداة تواصل، بل مفتاحًا للفهم، ومقومًا للفكر، وأداة لبناء الشخصية، وهو ما أدركه المربّون العظام، فربطوا بين التمكّن منها والتمكّن من الحياة.
ولأنها لغتي الأولى، وميدان اختصاصي، وأحد أعمدة هويتي التربوية، كان الانتماء لمشروعٍ تعليميٍّ يعلي من شأنها، ويجعلها حاضرًا في كل حصة، ومتنًا في كل تقرير، ومحبوبة في فم كل طالب، أحد أعظم النعم التي أحمد الله عليها.
وحين تكون القيادة مؤمنة بالعربية، محبة لها، تابعة لها في الدلالة والبيان والنهج، فإن الغرس يزهر… وإن المدرسة تتحوّل من مبنى إلى مشروع تنوير.
لهذا، كان الدكتور عبدالعزيز الثنيان – حفظه الله – وأبناؤه الكرام، في مسيرتهم التعليمية معنا، خير من حمل راية العربية، وأحسن توظيفها في خدمة العلم، وتطويعها لتبني القيم والشخصيات، لا لتجمّل العبارات فقط.
مشوار وفاء.. من الألف إلى الياء
أشرقَت رحلتي التعليمية في مدارس ابن خلدون منذ بدايات التأسيس، حين كانت الفكرةُ بذرةً، والرؤيةُ وعدًا، والحلمُ مشروعًا مشتركًا بين قلوب آمنت أن التعليم ليس تلقينًا، بل بناءٌ للروح والعقل معًا.
بين جدران هذه المدارس، عشتُ ثمانية عشر عامًا من النماء، نكتب فيها فصولًا من العطاء الصادق، ومشاهد من الصبر الجميل، برفقة رجلٍ عظيمٍ، لم يكن مؤسسًا فحسب، بل كان أبًا للفكر، وراعيًا للقيم، ومعلمًا للمعلمين: الدكتور عبدالعزيز الثنيان، حفظه الله وأجزل له المثوبة.
كان متخصصا في اللغة العربية ونال شهادة الدكتوراة فيها، فجمعتنا الضاد في قاعة الدرس، وفصاحة المعنى في سطور الإيمان.
وكان حرص الدكتور علينا وعلى لغتنا كحرصه على أبنائه؛ يتابع المخارج والنحو، ويوقظ فينا همّة الضاد التي لا تموت.
وفي الرحلة جاء ابنه ا.ثنيان… المدير العام، الرجل الذي لم يعرف الكلل. كان أول من يصل، وآخر من يغادر، يطوف بين المدارس كما يطوف الوالد بين أبنائه، يتابع التفاصيل بإخلاص نادر، ويجمع بين الحزم والرحمة، وبين الإدارة والقدوة.
كم هو جميلٌ أن تعمل في بيئة تُشعرك دومًا أن انتماءك ليس لعقد عمل، بل لرسالة.. وهذا ما صنعه فينا ابنه المهندس عبدالرحمن، المدير المالي، بخلقه الكريم، وتعاونه الدائم، وابتسامته التي تسهّل كل عسير، وتدعم كل مشروع. نختلف معه بحب ونتفق بثقة ونمضي قدما لما فيه صالح المدارس.
في مشوارنا التعليمي بمدارسنا حرص الدكتور على أن تبقى العربية حيّةً في مناهجنا وحديثنا وتقاريرنا ومسرحياتنا وندواتنا، حتى باتت مدارس ابن خلدون تُعرف بمستواها الرفيع في اللغة والهوية، وأصبح طلابها يتكلمون بفخرٍ، ويكتبون بفصاحةٍ، ويقرأون بوعيٍ ويفوزون في المسابقات.
خلال هذه السنوات، كان يتابع الصغيرة قبل الكبيرة؛ يسأل عن المعلم والمتعلم، عن السلوك والمنهج، عن أثر البرامج وصدق النتائج، لا يتوقف عند مؤشرات الأرقام، بل يسأل عن بناء الشخصية، وعن مكارم الأخلاق.
وكان يحرص كل الحرص على دروس القرآن وحفظ الطلاب والطالبات له، وكان يهتم بالمسابقات ويكافئ بنفسه الفائزين
اقولها بكل امتنان دمتم لنا، د. عبد العزيز، رمزًا للعطاء الجميل، ومثالًا لرجل آمن أن الأمة لا تُبنى إلا بالعلم، وأن المدارس ليست عقارًا يُباع ويُشترى، بل أثرٌ يُزرع في الصدور، ويبقى ما بقي الإنسان.
ذكرى هذه السنوات في القلب، لا تمحوها التغيّرات ولا تحجبها المسافات. وإن كانت الشركات تُنتقل، فالقلوب لا تُباع، والوفاء لا يُشترى.
رسالتي هذه ليست وداعًا، بل امتنانٌ علنيٌّ.. وعرفانٌ ناطقٌ باسم كل من مشى على أرض ابن خلدون وتشرّف بالعمل في ظلال فكركم وتوجيهكم.
زمانٌ مضى، لكنه زوّدني بزادي التربوي والمعرفي والإداري.. فما أنا عليه اليوم، بعد فضل الله، هو امتدادٌ لمدرسة أنتم أسّستموها، وعقلٍ أنتم صيّرتموه ناضجًا، وفكرٍ تعهّدتموه بالتزكية والتوجيه.
سأبقى مدينة لكم بكل لحظة علم وبناء.. بكل توجيه وابتسامة.. بكل قرار وإشراقة.
شكرًا من القلب، لكم ولأبناءكم الكرام، الذين كانوا أعمدة العمل، وصمّام أمانه، وروحه النابضة.
صدق المشوار، ونبل النوايا، وسماحة القلوب.. كلّها اجتمعت فيكم، فكنتم نعم القادة، ونعم المؤسسين.
ضياء أثرِكم سيبقى في الأجيال، في دفاتر الخريجين، وفي أحاديث المعلمين، وفي سلوك الطلاب، حتى لو تغيّرت الإدارات.
طال المسير، لكنّ الذاكرة قصيرة حين تكون مليئة بالجميل.
ظلّ عطاؤكم شاهدًا على معنى الريادة الأصيلة، التي لا تتقن التجميل الإعلامي بقدر ما تتقن صناعة الواقع.
عهدٌ عليّ أن أستمر في كل موقع أكون فيه، على ذات المبادئ التي تشربتها منكم، وعلى ذات الروح التي كبرتُ بها في مدرسة أنتم أسّستموها بالحكمة والقيم.
غابت العلاقة الإدارية، وبقيت العلاقة المعنوية… ولعلها أعمق وأصدق.
فأنتم في القلب، والدعاء لكم لا ينقطع، والذكر الطيب يسري على اللسان كما يسري الشكر في الوجدان.
قيادة مثلكم لا تُنسى.. وتاريخٌ مثلكم لا يُمحى.. ورسالة مثلكم لا تُهمَل.
كل حروف الامتنان لا تكفي.. لكني أكتفي بما كتبت، وأعلم أن ما في القلب أكبر.
لولا توفيق الله ثم أنتم، لما كانت هذه الرحلة بهذا الثراء.. وبهذا العمق.. وبهذا المعنى.
ما زلت أرى في مدارس ابن خلدون وجوهكم، وفي أركانها بصماتكم، وفي طلابها ملامح رسالتكم.. وستبقى علم ينتفع به واجره لكم..
نسأل الله أن يبارك لكم في أعماركم وأهلكم وأعمالكم، وأن يجعل ما بنيتموه شاهدًا لكم لا عليكم.
هـذه الرسالة، وإن كتبها القلم، فقد حفرتها سنين العمل والذكريات النقية.
وإذ غادرتمونا رسميًا، فأنتم لم ولن تغادرونا وجدانيًا.. فلكم مني دائم الوفاء، وصدق الدعاء، وجميل الذكر.
يكفيني أنني كنت يومًا من فريقٍ يقوده د.الثنيان، ويؤمن أن التعليم رسالة.. وأن القيم لا تُدرّس فقط، بل تُعاش.
مسك الختام
وحين نطوي صفحة من كتاب العمل، لا نطوي معها أثرها ولا ننسى حروفها… بل نتركها مشرعةً في الذاكرة، شاهدةً على أن ما يُبنى بالنية الطيبة، والمعرفة الراسخة، والمحبة الصادقة، لا تهدمه الأيام.
وإن سألني سائل: ما الذي تبقى بعد كل هذا المشوار؟
أقول كما قال المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
ولأني آمنتُ أن أعظم الأثر هو في غرس الفكرة وصقل الوعي، لا أجد أبلغ من قول المعري:
أحبّ لهم ما أحببتُ لنفسي
وأكفف عنهم يدي ولساني
فإنّهمُ بشرٌ مثلي وفيهم
عقولٌ، وفيهمْ أمانِي
وأختم بما قاله الرافعي:
“الأستاذ الحقّ هو الذي إذا تحدّث إليك جعل قلبك يسمع قبل أذنك، وعقلك يوقن قبل أن يفهم.”
فلكم، يا من زرعتم فينا حبّ العلم، وجمال العربية، وشرف الرسالة…
نقولها بأصوات كل من تتلمذ على نور مدارس ابن خلدون:
جزاكم الله عنّا خير الجزاء، وأثقل بذكركم ميزان الخلود.