عبق التاريخ.. ومجد المستقبل

بقلم: أماني بنت مبارك القربان

في قلب الجزيرة العربية، حيث تتعانق الرمال بالجبال، وتحتضن الأودية شواهد الزمن، تقف المملكة العربية السعودية بوصفها مهدًا لحضاراتٍ تعاقبت على أرضها، تاركةً آثارًا نابضة تحكي قصة الإنسان منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.

من العلا في الشمال الغربي، حيث البازلت الأسود يعانق صخور الحِجر، إلى نجران بجنوبها العريق، والأحساء بواحاتها المزدهرة، وتيماء وجُبة حيث نقوش ما قبل الميلاد، تنتشر آثار المملكة كمرآةٍ لثراء حضاري عميق، يروي ملاحم الإنسان في التكيف، والبناء، والإبداع.

وحين تطأ قدما الزائر مكة المكرمة، يلامس أول بيت وُضع للناس، حيث صدحت دعوة التوحيد، ومنها بزغ النور، وتاريخ الأمة. ويكتمل المشهد في المدينة المنورة، حيث دفء النبوة، ومآثر الصحابة، وأروقة المسجد النبوي التي شهدت انطلاقة الشريعة وميلاد دولة الإسلام.

لكن المملكة لم تجعل من تراثها مادةً للحنين فقط، بل اتخذته منارة لبناء المستقبل. ففي ظل رؤية السعودية 2030، أصبح الحفاظ على الإرث جزءًا من مشروع وطني شامل، يُعيد صياغة العلاقة بين الثقافة والتنمية. فالمعالم الأثرية لم تعد مجرد حجارة صامتة، بل صارت منصات تفاعلية تنبض بالحياة، وتنقل قصص الأجداد بلغة العصر.

العلا اليوم ليست مجرد أطلال، بل مشروع عالمي يجمع بين السياحة الثقافية والفنون والبحوث الأثرية. وبوابة الدرعية تعيد الاعتبار لمهد الدولة السعودية الأولى، وتحوّله إلى معلم يروي قصة وحدة وهوية. وفي ذات السياق، تُولي المملكة اهتمامًا متزايدًا بالفنون، والآداب، والمسرح، وصناعة الأفلام، لتصنع بيئة إبداعية خصبة تستقطب المبدعين من الداخل والخارج.

المهرجانات مثل موسم الرياض وموسم جدة، والفعاليات الثقافية والفنية، أضحت منصات تعكس الحراك الثقافي، وتبرز صورة المملكة الحديثة: أصيلة في جذورها، متقدمة في رؤيتها، مفتوحة على العالم بثقة وشغف.

ولأن الثقافة قوة ناعمة، فقد أولتها المملكة بعدًا اقتصاديًا وتنمويًا، عبر تأسيس هيئات مثل هيئة التراث وهيئة الأدب والنشر والترجمة، لتكون جسورًا بين الماضي والحاضر، وبين المواطن والعالم، عبر مشاريع تُحفّز الإبداع وتحوّل التراث إلى مصدرٍ للفرص والاستدامة.

إن المملكة اليوم لا تكتفي بحفظ آثارها، بل تبني عليها نهضة جديدة، تجعل من تراثها لُغةً عالمية، ومن ثقافتها رسالةً خالدة، ومن أرضها موطنًا لحوار الحضارات، ومركزًا يُضيء للأجيال طريق المجد.

@AmanyAlasmi

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *