الرأي

جائزة عبدالحميد شومان.. وقفة لإعادة النظر في المعايير

د. سليمان الذييب

كاتب وباحث وأكاديمي سعودي

من منا لم يسمع بالوجيه “عبد الحميد شومان”، العربي الفلسطيني، المولود -رحمه الله- عام “1888م” في بلدة “بيت حنينا”، هاجر في نهاية العقد الأول من القرن التاسع عشر الميلادي إلى أرض الأحلام “أمريكا”، وأمضى فيها على الأقل “12” عامًا متنقلًا بين عدة وظائف منها: “عامل حجارة بناء، وبائع متجول”، لكنه -بعد أحد عشر عامًا في الغربة- عاد إلى أرضه وموطنه فلسطين، واختار مدينة القدس في عام 1929م، مقرًا لإقامته، وأسس فيها -بعد عام من عودته- بنكه الذي نال سمعة ومكانة طيبة في عالمنا العربي، “العربي” مبتعدًا عن الأسماء الجغرافية أو العائلية، بل اختار اسم عرق كان (أقول كان) له دور مرموق في الجدار الحضاري قبل أن يتخلى عن فهم دينه الصحيح وفكره الرصين. واليوم تجد فروع البنك “العربي” في كل مدينة كبيرة من عالمنا العربي.

أما مؤسسته “عبدالحميد شومان”، التي أوصى أبناؤه بإقامتها لتعنى بالشأن الثقافي والعلمي في عالمنا العربي، فبادر ابنه “عبدالمجيد شومان” بتأسيس هذا الصرح الكبير وذلك في عام 1978م؛ فكما يقال “من خلف ما مات” وهي حسب فهمي تحتفل هذا العام بعامها “40”. فقد نال شرف الحصول على هذه الجائزة ومقدارها على الأقل هذا العام “20” ألف دولار، “471” فائزًا من “5592” مرشحًا عربيًا.

وكان ليّ شرف حضور حفل هذا العام بدعوة كريمة من لدن المؤسسة، التي أحسنت حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة غير المستغربة من “النشامى”. وكانت مناسبة طيبة ليّ أن ألتقيتُ بعدد من الأحبة ورفاق الدرب، شيخينا “معاوية إبراهيم” (أحد الفائزين بفرع العلوم الإنسانية)، و”زيدان كفافي” (صاحب اللسان الرطب والقلب الأبيض والعلم الغزير)، وكذلك الزميلين الفاضلين، العربية اليمنية أستاذة النقوش العربية المسندية الجنوبية “عميدة شعلان”، والعربي الأردني “عمر الغول” (الجندي المجهول في جامعة اليرموك). كما كان من سعادتي أن تعرفتُ على الأخ الفاضل “خالد البشايرة” (الفائز الآخر بجائزة العلوم الإنسانية). وكانت سعادتي غامرة أن ألتقيتُ بأمين أحد أهم الجوائز العالمية وأكثرها احترافية “جائزة الملك فيصل” الأخ الدكتور “عبدالعزيز السبيل”.

وأرجو أن يتسع صدر القائمين على هذه الجائزة العريقة وعلى رأسهم الرئيسة التنفيذية “فالنتينا قسّيسة” ومعالي رئيس الهيئة العلمية عطوفة الدكتور “أمين محمود”؛ فقد لفت انتباهي أن بعض من نال الجائزة لديهم انتاج علمي مستغرب خصوصًا في المجالات التطبيقية والصحية، فبعضهم نشر “1973” بحثًا والبعض “550” دراسة، وبحسبة بسيطة نجد أن صاحب الرقم الأول قد نشر خلال “17” عامًا (بعد حصوله على الدكتوراه): (“1973 بحثًا تقسيم 17 عام= 116,058824 بحثًا في العام) أي “9,666667” بحثًا في الشهر؛ وأولئك الذين نشروا 550 بحثًا منذ عام 2006م (550 تقسيم 16= 34,357 بحثًا في العام) أي أنه ينشر “2,86458333 بحثًا في الشهر”.

وفي ظني أن هذه الأعداد الكبيرة من الأبحاث تحتاج إلى وقفة جادة، فكيف يقوم شخص أو أشخاص من نشر هذا الكم الكبير من الدراسات؟ في فترة زمنية قصيرة أقل من “20” عامًا؛ خصوصًا -أرجو أن أكون مخطئًا- لا نلحظ تأثير لهذه الأبحاث على الحياة العلمية داخل الوطن العربي وخارجه.

ولذلك فأني أتوجه للقائمين على هذه الجائزة المتميزة والوحيدة التي نالت اهتمام الفئة العلمية المطحونة، فهي الوحيدة التي كانت مُنى غالبية الباحثين العرب، لأنها الوحيدة في هذا الجانب التي ألغت الحدود ووحدت بين الباحثين العرب من فئة الشباب، أقول أتوجه إليهم لإعادة النظر في معايير العمل الخيري المتميز. وما لمسته خلال متابعتي المتواضعة لمسيرة هذه الجائزة خلال سنواتها الماضية فقد نالت مكانة مقدرة إلى حد كبير عند الباحثين الشباب، بل امتازت ببعدها القومي وابتعادها عن الإقليمية النتنة التي أهلكت الأمة، أو تلك الجوائز التي لا ينالها (وما أكثرها) إلا المعارف والأصدقاء يجعلني أتمنى أن تعود إلى سابق منهجها. ولا أعلم ما هي الأسباب التي دفعت القائمين عليها -حفظهم الله- إلى تغيير هذه السياسية التي أدت دورًا واضحًا في تحريك عجلة البحث؟!

فقد بدأت الجائزة بمنهج مختلف ومؤثر بتخصيصها للباحثين العرب الذين لا تتعدى أعمارهم الأربعين فقط، إلا أن هذا المنهج تغير في السنوات الأخيرة، فأصبحت تشمل الجميع بغض النظر عن العمر.

وكم أتمنى من القائمين على الجائزة إعادة النظر في سياستها، واقترح الآتي:

الأول: إعادتها إلى سابق عهدها وقصرها على الباحثين الشباب فقط.

الثاني: تحويلها إلى جوائز مِنَح عوضًا عن تقديم جائزة مالية للفائز، فالملاحظ أن عالمنا العربي من خليجه إلى محيطه تتعدد فيه الجوائز العلمية وتتنوع (غالبيتها ينحى المنحنى الإقليمي) لكنها تفتقر إلى الطريق الأفضل والأنجع –عندي- المتمثل في دعم الأبحاث العلمية ومساندتها عن طريق “المِنَح” المالية، فهو الطريق الأمثل لتحقيق الهدف الفعلي والاستفادة المباشرة من الأبحاث والدراسات العلمية (الإنسانية والتطبيقية والصحية).

وألاحظ -وقد أكون مخطئًا- أن هذا النوع من الجوائز يندر في أوروبا الغربية رائدة البحث العلمي، فيما عدا الجوائز الكبرى الشاملة، واستعاضوا عنها بأساليب علمية فاعِلة فأسسوا عشرات الجهات الداعمة للأبحاث والدراسات بطريق مباشر وغير مباشر، بمنح مالية تغطي مصاريف الدراسة أو المنح الدراسية (وأقرب الأمثلة على ذلك أن جل من يعمل اليوم في مجال الآثار في أردن النشامى هم من طلاب المنح في ألمانيا وفرنسا على وجه التحديد). ولننظر بتمعن وشيء من الهدوء إلى ما قدمته مؤسسة “فول برايت” الأمريكية أو المعاهد الألمانية من دعم ومساندة للباحثين في مختلف العلوم، فسنجد أنها بهذه الدراسات قد غطت مناح لا حصر لها من احتياجات المجتمع الإنساني.

الثالث: حصرها (الجائزة) في عمل معين في كافة التخصصات المشمولة فيها، وليس على أساس الأعمال في الخمس السنوات الأخيرة، فأحدهم قد ينشر مقالًا عن عشر مقالات أخرى في قيمته وأهميته. والأخوة في الجائزة بحسن نية حصروها بعدد الأبحاث في الخمس السنوات الأخيرة- كما ذكر معالي رئيس الهيئة العلمية في كلمته الوافية- وهذا الشرط في تصوري فيه إجحاف للعلم نفسه إذ أن هناك علوم يمكنك بطرق مشروعة وأخرى ملتوية ليحقق الباحث أعداد كبيرة من الأبحاث؛ فقد دفعت اللجنة بهذا الشرط الاعتماد على “الكم” لا على “الكيف”، والفارق بينهما واضح وجلي فالأول يفيد فقط الباحث نفسه بغض النظر عن استفادة المجتمع، والثاني تأثيره على المجتمع واضح وبين.

فالدراسات التي لا تجد طريقها إلى ملامسة احتياجات المجتمع واهتماماته تكون كمن يملأ برميلًا بالهواء. والطامة الكبرى عندي أنها قد تشجع ضعاف النفوس على استخدام طرق مشبوه بهدف زيادة أعداد الأبحاث. وعندي أن مقالًا واحدًا يضيف جديدًا ويناقش قضية ويحل معضلة أفضل من “100” بحثًا لا تجد طريقها إلى خدمة المجتمع وفائدته. والذي حفزني على أعلاه أمران، أولهما سماحة اللجنة العلمية ورغبتها في تطوير معايير الجائزة، وثانيهما مسوغات فوز البعض المتمثل في أعداد البحوث، فالواضح أن المعيار الحالي اعتمد على سياسة “عدد الأبحاث” لا جودتها، وهو “الكم” لا “الكيف”.

وشخصيًا لا أرغب أن تلحق الجائزة (التي حفرت لها اسم في الذاكرة العربية) أن تلحق بالجامعات العربية وأسلوبها، الذي -مع الأسف- أدى إلى انخفاض، بل ضعف مخرجات التعليم، لاهتمامها بالتصنيف ودفع منسوبيها –حتى وأن استخدموا المال- الإكثار من الأبحاث بغض النظر عن أهميتها وفائدتها وتشجيع منسوبي الجامعة على النشر بلغات أجنبية. وقد أدى الأول إلى ضعف مخرجات التعليم، فانشغل منسوبي الجامعات في تنفيذ هذه التوجهات. والثاني أدى إلى اختفاء هدف من الأهداف الأساسية للجامعات وهو “نقل المعرفة للمجتمع المحلي”، فعاش المجتمع الأكاديمي في العقدين الماضيين يلهثُ خلف التصنيف الوهمي والنشر عن طريق الترجمة بهدف الركض وراء سراب لم ولن يتحقق على الاطلاق. والمثال الناصع الذي أجده أمامي وعاصرته شخصيًا في جامعة الملك سعود.

فآفة الكم من الأبحاث لا الكيف ظهرت في عالمنا العربي بعد ظاهرة التصنيف التي أصبحنا اليوم نعاني بشدة من نتائجها الكارثية على مخرجات التعليم (الدليل انخفاض مستوى التعليم في الجامعات العربية) التي سيعاني منها المجتمع لعدة عقود إذا لم توقف الجهات العليا في الدول العربية هذا الهدر المالي والوقتي غير الطبيعيين، فالعملية التعلمية أركانها: الأستاذ والطالب والبيئة (المعمل والمكتبة) والنشاطات اللاصفية دونها فلا تعليم حقيقي.

وأخيرًا أضم صوتي إلى مطالبة عطوفة رئيس اللجنة العلمية في حَث البنوك ورجال الأعمال إلى تبني مشاريع ترفع من شأن البحث العلمي في وطننا العربي.

رحم الله عبدالحميد شومان، وابنه عبدالمجيد، وأعان الله حفيده عبدالحميد لإكمال الرسالة، والشكر موصول إلى الوجيه “صبيح طاهر المصري” على دعمه ومساندته، مرة أخرى الشكر والعرفان للأخوة في هذا الصرح العلمي القيم وللأخوة القائمين عليه يتقدمهم المدير التنفيذي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *