الرأي

عبدالمقصود خوجة.. اثنينية لا تُنسى

د. سليمان الذييب

كاتب وباحث وأكاديمي سعودي

نعى الوسط الثقافي في بلادنا انتقال الوجيه “عبدالمقصود خوجة”، الذي وافتهُ المنية قبل عدة أيام في أثناء علاجه -رحمه الله- في أمريكا. وخوجة المولود في مكة المكرمة عام 1936م- بعد أربع سنوات من إعلان اسم الدولة الجديد “المملكةِ العربيةِ السعوديةِ”، لا يختلف كثيرًا عن أقرانه من ذلك الجيل الجميل، فقد كان المجتمع وقتها يدخل مرحلة جديدة عنوانها دولة المؤسسات، بعد أن عاشت شبه الجزيرة على الهامش قرونًا عدة. وقد امتاز ذلك الجيل بعدة مميزات ومقومات منها العمل الجاد والفكر النير والرؤية الواضحة؛ لذلك نجح ذلك الجيل ومنه “خوجة” في بناء الدولة ووضعها على الطريق الصحيح بقيادة مؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه.

ومع أن “خوجة” لم يَنَلْ من التعليمِ إلا أيسره، فقد درس المرحلة الابتدائية في مدارس الفلاح بمكة المكرمة، وأكمَلَ تعليمهُ في المعهد العربي الإسلامي بدمشق؛ إلا أن تكوينات شخصيته التي أدّتْ دورًا ثقافيًا واضحًا في جدار الثقافة المحلية، كانت الأساس الذي انطلق منه “خوجة”. وبرأيي أن الفكر والرؤية التي كانت سائدة في الوطن -آنذاك- قد صقلت شخصيته الجسورة، إضافة إلى مناصبه الإدارية التي كان لها دور كبير في صقل شخصيته الثقافية، كيف لا وقد تقلد منصبين في مدينة الثقافة والنور في وقتها “بيروت”، قبل أن تهيمن عليها الحزبية الطائفية التي بُلِيتْ بها الأمة بعد سماح فرنسا للخميني حكم إيران العريقة بتراثها وتاريخها المجيدين. فمن خلال منصبيه الحكوميين، وهما: مندوب الديوان الملكي السعودي في المفوضية السعودية ببيروت، ثم العمل في المكتب الصحفي بالسفارة السعودية بلبنان. ولاحقًا بعد عودته إلى الوطن في قطاع الإعلام من خلال منصبيه: “مدير المكتب الخاص للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ومنصب مدير الإدارة العامة للصحافة والإذاعة والنشر بمدينة جدة المدينة التي أحبها وأحبته.

كان هذا الشق الحكومي أما الجانب الآخر وهو العمل الحُر، فكان بعد استقالته في عام “1383هـ/ 1964م” من القطاع الحكومي، فدخل الأعمال الحرة، التي نجح فيها نجاحًا واضحًا من خلال علاقاته التي كونها من عمله الحكومي داخل المملكة وخارجها، وأبرز هؤلاء صداقته لصاحب السمو الملكي الأمير “سلطان بن عبدالعزيز” وزير الدفاع والطيران وقتها، فأسس عدة شركات في مجال أعمال البناء والمقاولات والصناعة، منها مجموعة خوجة المختصة بتطوير المشاريع السكنية. وهكذا نجد أن شخصية المرحوم “خوجة” كانت نتيجةً لعدة عوامل بيئية اجتماعية ومكانية مهمة، فولادته في مكة واستقراره في جدة، وهما المدينتان اللتان مثلت الانفتاح على الآخر في وطننا الحبيب، إضافة إلى استقراره مدة من الزمن في عاصمة النور والثقافة العربية بيروت، حيث عاش فيها وانخرط مع مجتمعها وتفاعل مع صخبها وانفتاحها وحراكها المتعدد الجوانب السياسي والاجتماعي والثقافي. كما كان لعمله الحكومي حتى استقالته الذي كان في القطاع الأقرب إلى الثقافة، وزارة الإعلام سواء خارج المملكة أو داخلها، أقول كل هذه أبرزت لنا شخصيته المتميزة.

وبعد أن أغدق الله عليه من نعمه وأفضاله ولتأثره ببيروت وأضوائها وصخبها وحراكها السياسي والاجتماعي، ولعمله الحكومي في الإعلام استخدم ثروته المباركة في دعم الأنشطة الثقافية ومساندته فأسس “منتدى الاثنينية الثقافي الأدبي”، في العام الهجري 1403- الذي يُقام مساء كل اثنين في قصره بجدة، احتفاءً برموز الأدب والشعر والفكر، فكرم من خلاله أسماء مهمة لمعت في مجالات الثقافة والفكر والأدب ليس فقط من المملكة العربية السعودية (عبدالقدوس الأنصاري وعبدالرحمن الأنصاري.. إلخ)، والعالمين العربي (محمد مهدي الجوهري، وسمير سرحان… إلخ)، والإسلامي، بل والدولي (ألكسي غاسيليف، وبنيامين بوبوف).

ولم يقتصر دعمه للجانب الثقافي وحسب، بل امتد إلى جوانب أخرى، مثل: الجانب الرياضي، ( أندية الوحدة بمسقط رأسه مكة، والطائي والجبلين في حائل)، والثقافي، مثل: النادي الثقافي الأدبي في مدينتي جدة، ومكة المكرمة، والجمعيات الخيرية، مثل: الجمعية الخيرية بالمدينة المنورة، وجمعية البر في مدينتي: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وتنوعت هذه الجمعيات بين جمعيات تحفيظ القرآن الكريم (الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة) والرعاية الاجتماعية (جمعية رعاية الأيتام بمكة المكرمة، وجمعية رعاية الأطفال المعاقين بالغربية، ورعاية الأطفال المعاقين بالرياض)، والصحية (مثل: مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة، وجمعية أصدقاء القلب الخيرية، وطب الأنف والأذن والحنجرة بجدة، ومرضى السكر، وجمعية أصدقاء مرضى الزهايمر).

ولنعد الآن إلى الاثنينية التي شرفتني بالتكريم في العام١٤٣٦هـ، فقد كانت ليلة لا تنسى، ورغم أنها المرة الأولى التي أحظى فيها بشرف لقاء المرحوم “عبدالمقصود خوجة” إلا أنها تركتْ في نفسي أثرًا طيبًا لا ينسى، فشخصيته الهادئة الواثقة، وتعامله الطيب، وخلقه الرفيع، وثقافته الواسعة، وحنكته تجعلك تحس أنك في بيتك؛ وقد لفت انتباهي ما اسميته بـ: الطقوس (الترتيبات) التي يمّر بها الضيف (المُكَرَم)، فبعد دفع تكاليف السفر والإقامة المتميزتين، تكون الطقوس أو الترتيبات على النحو الآتي:

– ليلة التكريم يأخذك السائق إلى قصر (دار) المرحوم “خوجة” في “السابعة” مساءًا؛ فالبوابة المخصصة للمُكَرَمِ لا تُفتح أبدًا إلا في تمام الساعة السابعة والنصف، ولا يمكن الدخول قبلها، لذلك اضطر السائق الدوران مرة أخرى بدلًا من الوقوف عند البوابة.

– الاستقبال الرسمي الراقي من لدن المُضِيف وفريق المنتدى، مع سجادة حمراء ذكرتني باستقبالات القادة والمهرجانات الفنية العالمية. يتبعه حفاوة رائعة من المُضِيف، وشخصيًا لم أحظّ باستقبال خوجة، فقد أناب ابنه الفاضل “محمد سعيد عبدالمقصود خوجة”، الذي لا يقل عن ابيه بشاشة وهيبة.

– الانتقال برفقة الفريق وكاميرات التصوير الفوتوغرافية والمتلفزة إلى قاعة أنيقة حيث استقبلتُ من صاحب الدار (كما يحب أن يسميها)، بمعية كبار الضيوف من وزراء سابقين وكبار رجالات جدة من مفكرين وأدباء؛ وقد ازدانت هذه القاعة الأنيقة بصور المكرمين الذين بلغ عددهم أكثر من “450” مكرمًا.

– بعد استراحة قصيرة تبادلنا فيها أطراف الحديث، تشرفتُ بإهدائه بعض من مؤلفاتي المتواضعة ولوحة كُتب عليها اسمه بالقلم النبطي، نفذها الأخ سعيد الأحمري، أقول بعد استراحة تستمر في العادة “25” دقيقة، يقودنا بعدها الشيخ رحمه الله إلى المكان المخصص للتكريم، الذي يبدأ في تمام الساعة الثامنة.

– يلقي في البداية خوجة كلمته الترحيبية، يتلوه المتحدثون، الذين كانوا وقتها أربعة أشخاص، منهم الزميل والأخ المفكر “الدكتور زيد الفضيل”، والعربي القومي الميول المفكر طبيب الإسنان “عبدالله مناع” الذي انتقل إلى رحمة الله عن عمر يناهز “80” عامًا، والأخير فوجئتُ بمشاركته، ومع الأسف لا تحضرني بقية أسماء الأخوة المشاركين. ثم طُلب مني إلقاء فكرة مختصرة عن الآثار وأعمالنا في موقع دادان.

– يقوم -بعد انتهاء هذه الفقرات- المُضِيف -المرحوم بإذن الله خوجة- بتقديم هداياه التكريمية للمُكَرَم، أبرزها لوحة كسوة الكعبة.

رحم الله “خوجة” فقيد الثقافة وأسكنه فسيح جناته وتجاوز عنا وعنه وألهم عائلته ومحبيه الصبر والسلوان، ونسأل الله عز وجل أن تكون هذه الاثنينية وفعالياتها، ومنها إصداراتها المجانية التي بلغت حتى الآن “185” إصدارًا مع إصداراتها للأعمال الأدبية للأدباء السعوديين القدامى وتوثيقها في ميزان حسناته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *