الرأي

زوبعة الفرقة الكورية

د. أمل الطعيمي

مثقفة وكاتبة رأي سعودية .. عميدة كلية الأداب بجامعة الإمام عبدالرحمن (سابقا )، مديرة التحرير بصحيفة "اليوم" (سابقا)

مر المجتمع السعودي ببضع جولات من الحراك الاجتماعي العام ، وما يندرج تحته من أنواع فكرية ومكانية ومهنية ترتفع به أو تهبط ، وقد تقبل المجتمع كثيراً من الخطوات التغييرية بيسر وسهولة حتى وإن شابها شيئاً من الخوف والتردد ، ولعل أكثرها وضوحا وصعوبة حركة توطين البدو في بداية العهد السعودي ثم بعد ذلك بدأ المجتمع مرحلة من التدرج البطيء كحراك اجتماعي طوعي أو تحت الضغط الرسمي كما هو الحال مع تعليم البنات كمثال ، ثم ازداد تسارع الخطوات فإذا كان التعليم الرسمي للبنات بدأ في عام ١٩٦٠  فإن تسجيل أول دفعه من طالبات الطب في جامعة سعود كان عام ١٩٧٥ في هذا الوقت كان المجتمع مطواعاً  لكل جديد منفتحاً رغم محافظته على كثير من قيمه الدينية والاجتماعية حتى بدأنا مرحلة جمعت بين حراك متجه للأعلى وآخر يتجه للأسفل وفق خطة مدروسة من قبل تيار ديني متشدد حد الإيذاء باسم الدين وكان ما كان من تاريخ لمرحلة زمنية جمعت بين هذا وذاك حتى حين في آن واحد داخل إطار من الصراع المستمر بين رفض من فئات وقبول ذاعن مرتبك من فئة أخرى ربما كانت أقلية ولكنها ذات صوت مرتفع وحضور طاغ مرعب ، فئة  تاهت بين المسميات مابين جهاد دموي وجهاد نفسي . هذه الفئة انتفض ضدها بعض من استمالتهم في البداية ثم ما لبثوا أن انتبهت عقولهم للمصيدة التي وقعوا بها فخرجوا منها سراعاً يعلنون براءتهم منها كل على طريقته ومدى تأثره النفسي بما وقع عليه من أذى جراء الضغط المتزايد في كل تفاصيل حياته والحرام الذي قيد الحياة العامة بطريقة جعلت كل من يخالف ذلك مجرماً . ولم يخرج الجميع معافى من تلك الهيمنة بعضهم خرج ثائراً وبعضهم خرج منحرفاً لا يدري أي الطرق يسلك وبعضهم خرج طامعاً أن يعكس اتجاه السير لتكون له الغلبة ! وحالات أخرى متفرقة أضرت بنفسها وبغيرها بدرجات متفاوته وبعضهم لم يخرج أبداً من خوفه وحيرته . اليوم ومع كل ما حدث ويحدث هناك من زادت نبضات قلبه خوفاً من التغيير وخوفاً على القيود مرتبك يقدم ويحجم ، ويتذمر ويندد ويستنكر ، يريد ولا يريد وما زال يستخدم الأسلوب نفسه للترهيب أسلوب اللسان المتحرك المناقض تماماً للفعل المترتب.  لا أدري لماذا استحضرت كل تلك المراحل عندما أعلن عن حفل الفرقة الكورية وظهرت الصور التي تؤكد أن لهذه الفرقة جمهوراً لا يستهان به من فئة المراهقين وحينها كتب الكبار عن جهلهم بهذه الفرقة جهلاً تاماً وكتب بعضهم عن الخطر العظيم الذي جاءت به الفرقة وأثرها على شبابنا وقائمة طويلة من المخاوف ولم يفطنوا أن تلك الأعداد الضخمة التي حضرت الحفل كانوا يعرفونها من قبل ويحفظون أغانيها ويتمايلون على موسيقاها لم يكن حضورهم للتعريف بهم كشيء مجهول وهذا ما سبب صدمة لكثير من الناس وبدأت أسئلة الخوف المعتادة تتسارع في أذهانهم حولها وقال بعضهم : إننا نخاف من عطاشى القاع الذين يشغلهم الانبهار بكل جديد عن مساوئه وخطره ونسوا أن هؤلاء الفتية والفتيات ولدوا في زمن لا يجدي معه المنع والقيد لأنهم كانوا يحملون العالم بين أيديهم في جهاز ما وأن الاستماع لهم ومناقشتهم ومشاركتهم وتقبل اختلافهم هو الضابط الوحيد للتعامل مع كل جديد يحمل الموجب والسالب ولن ننجح في بيان السالب إذا لم نتفق على حسنات الموجب.

عندما استمعت لما قالته إحدى الفتيات في لقاء تلفزيوني عن سبب إعجابهم بالفرقة ، أدركت سبباً قوياً لإعجابهم بتلك الفرقة ليس فقط على المستوى المحلي بل في العالم كله من حولنا شرقه وغربه حيث قدمت الفن لروح الإنسان وعلاقته بذاته قبل علاقته بالآخر ولهذا صنفت كمجموعة واعية اجتماعياً علمت المراهقين من خلال الأغنية  أن يكتشفوا ذاتهم ويحبوها وأن يتلمسوا احتياجاتهم النفسية ويتعلموا مداواة مشاعرهم السلبية وأفكارهم الجامحة ، وكلنا ندرك صعوبة هذه المرحلة حتى بين الأسر الواعية ولكن هذا لم يمنع أن ينخدع الآباء والأمهات بأبنائهم أو العكس ربما لأن درجة التقارب غير كافية أولأنهم لا يستغنون عن حقهم في استخدام أسلوب الأمر والرفض والمنع دون نقاش حتى في أبسط الأمور ولذلك سرعان ما يميل المراهق لصديق أو لفنان يفهمه ويعبر عنه ويخرج أجمل ما فيه وأسوأ ما فيه دون تسلط . لا زلت أذكر صوت إحدى الأمهات وهي تفتخر ببناتها بطريقة مبالغ فيها من حيث انضبطاهن أخلاقياً بمواصفاتها هي حتى لو لم يكن في الأمر تصرفاً غير لائق من وجهة نظر الفتاة كأن تخرج مع صديقاتها من الجامعة لأحد المقاهي ثم تعود إلى بيتها أو جامعتها دون أن تخبر أمها بذلك .وهذه حقيقة حدثت وتحدث كل يوم . إن مجرد خوفها من مناقشة أمها في الأمر ومصارحتها به يشير إلى خلل في العلاقة وقس على ذلك كثيراً من الأمور التي تصغر وتكبر حسب مستوى وعي الأسرة . خذ أيضاً هذه الحقيقة إحداهن كانت تدرس في البحرين وتضطر للمبيت أحياناً وفق جدولها الدراسي ولكنها تمردت على الصورة المثالية لها في ذهن أهلها حين قررت أن تذهب مع أخريات إلى دبي ويعودون في اليوم نفسه دون علم أهلهم . وكم كانت تلك الأم تثرثر كثيراً عن التربية والأصول ولكنها لم تدخر شيئاً من قدراتها الكلامية للتحاور مع ابنتها . إن بعض الأسر يعتقدون أن التربية هي بالأمر فقط وأن الاستسلام من قبل الأبناء هو طاعة واستجابة فيفرحهم هذا ويعتقدون أنهم حققوا التقارب المرجو .

أحسب أن الزوبعة وربما الصدمة الاجتماعية التي كشفها حضور  الفرقة الكورية وكثافة جمهورها تكشف للأسر الخائفة والمرتبكة مساوئ علاقاتهم بأبنائهم وتخفف من الاعتماد على فعل الأمر دون نقاش ودون حب ودون ثقة متبادلة وقائمة طويلة من تفاصيل تلك الثقة وأن يدركوا بأن خضوع الأبناء لفعل الأمر لا يعني أنهم يوافقونكم عليها وإنما هم يخشون غضبكم منهم وهذا لا يكفي . فاستفيدوا من الدرس إن كنتم قد فهمتموه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *