الرأي

القوات المسلحة

د. سليمان الذييب

كاتب وباحث وأكاديمي سعودي

الجيش أي الجُند وقيل جماعة من الناس في الحرب، والجيش جُند يُسيَرون إلى الحرب.

وتعود بداية ما نعرفه اليوم بالجيش أو القوات العسكرية النظامية إلى عصور موغلة في القدم، فقد كانت البداية – فيما يبدو – حماية زعيم القبيلة أو موقعهم (مأواهم) من الأعداء سواء أكاموا بشرًا أم حيوانات متوحشة.

ونظرًا إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية فقد تحولت هذه المجموعة إلى قوات تدافع عن مكتسبات هذا الزعيم أو القائد، فعلى سبيل المثال كان الجندي (أظنه ن ف ر بالمصرية القديمة) الذي يعمل مع الملك أو الزعيم يحصل يوميًا على “رطلين من لحم البقر وخمسة أرطال من الخبز وكمية من الشراب”؛ في حين لا يحصل الجندي العادي على أجر مقابل خدمته العسكرية، فيما عدا طعامه وشرابه اليومي فقط وذلك في حال مشاركته في مهمة أو حملة عسكرية.

وتطور الحال -على الأقل في عالمنا الشرقي- إلى أن أصبح الجيش قوام السلطة وصمام أمانها وأهم ركائز الدولة التي تعد اليد التي يضرب بها القائد أو الزعيم. فأصبح يُمنح المميزات والمكتسبات دون غيره من أبناء المجتمع كيف لا وخدماته واضحة للقيادة السياسية، فحل الدفاع عن الأرض والوطن والذود عن حياضه في الدرجة الثانية بعد الحفاظ على مكتسباتهم الاقتصادية والاجتماعية التي تتمثل في استمرار النظام؛ فعلى سبيل المثال دلت الدراسات التي تناولت الجيوش في الفترة السبئية المتأخرة إلى أن منسوبي القوات المسلحة كانوا في مستوً اجتماعي واقتصادي متميز، فهم يملكون -كما دلت الدراسات- الثروات واقطاعات كبيرة، ويحصلون على نصيب وافر من الغنائم والأسرى، بل -وهذا أمر مثير للدهشة- “يعفون من الضرائب”، وهذا الحال تمتع به الجندي السبئي “ا س د”، كما أوضحه مرسوم الملك “أب كرب ملك وتر” القاضي في أحد بنوده الآتي: “لا يحق لكبير صرواح ومجلس ساداتها وشعبها وأبنائهم مطالبة جنود الملك المرابطين لديهم بدفع الضرائب”. وهذا الوضع المميز إلى حد كبير تمتع به أيضًا جنود بقية الحضارات والممالك القديمة، بل أن الإمبراطورية الرومانية اعتمدت في الأساس على توسعها وهيمنتها على العالم على هذا النوع من الجيوش التي ينال قادتها أي الجيوش المغانم والمكتسبات من حملاتهم هذه وتوسعاتهم مع ولائهم لروما العظيمة. وقبل أن ألج إلى هدف مشاركتي هذه على ً الإشارة إلى أن المكانة التي تمتع بها الجيش قيادة وجنودًا استمرت كما أظن في معظم حضارات العالم حتى جاءت الفترة الإسلامية، وتحديدًا في عهد عمر بن الخطاب الذي منع الجند من الزراعة واقتناء الأراضي الزراعية أو ممارسة التجارة، والهدف كما رأه الخليفة الثاني “كي لا يركن العرب إلى السكينة والرخاء”، فالمرحلة مرحلة جهاد وبناء خلافة عظيمة تعتمد على فكر الجهاد مرضاة لله ونشر لدينه. وعلينا الإقرار أن هذا الفكر الذي أمر به عمر تغير لاحقًا فعاد المكسب المالي والاقتصادي حافزًا للجند.

قد يرى البعض فيما ذكر أعلاه الوجه السيئ لبعض الجيوش عبر تاريخها القديم إلى اليوم، لكن لعلي ألقي الضوء على الجوانب الجيدة والجميلة في الجيش (الجيوش) ولعل من أهمها أن جل التطورات التقنية والمعمارية بل حتى القانونية وغيرها قد بدأت من الجيش نفسه والتي دفعته إلى اختراعها أو تبنها أو إقرارها، فالأسلحة والقواعد العسكرية والمدن العسكرية -كتلك التي أسستها أشور العظيمة- والتخطيط المعماري وغيرها ولدت مع القوات المسلحة واستمر الحال حتى يومنا الحاضر.

لكن في يومنا الحاضر -كما هو في بقية العصور- نوعان من الجيوش الأول ما زال متمسكًا بالأسلوب التقليدي المتمثل في اغتصاب مكانة في المجتمع دون أن يقدم للمجتمع ما يؤهله لهذه المكانة، يمثله جيوش العالم الثالث. والثاني نال مكانته بصمت وبعمل متواصل، تمامًا مثل الجيوش المصرية (الفرعونية) في بعض مراحلها القديمة والعراقية القديمة (الأكادية، والأشورية، والبابلية) أو الحثية …. إلخ، ويحتلها اليوم بكل أسف الجيوش الغربية وعلى وجه الخصوص الأمريكي والألماني. فما نعيشه اليوم -في أغلبه- من تطور تقني واضح في مجالات متعددة: طبية أو علمية أو اجتماعية تقف وراءه المؤسسات العسكرية التي انخرطت بشكل واضح في البحث العلمي بشقيه “العلمي والإنساني” إضافة إلى الدفاع عن الوطن واستقلاله. فعلى سبيل المثال دفع التنافس بين هذه الجيوش إلى اختراعات عدة مثل: الانترنت، وفارة الحاسوب ونظام تحديد المواقع وطائرات التجسس وأنظمة الصواريخ الذكية، وكذلك الحرب البيلوجية التي أدت بشكل واضح إلى تطورات في المجال الطبي، ومنها البنج وغيره….إلخ، بل أن وكالة البحوث العسكرية الأمريكية المسماة “داربا” تعمل حاليًا على تطوير جندي الاجريندايزر ليقوم بالمهام الخطرة عوضًا عن الإنسان…… إلخ

هذا حال هذه الجيوش التي تنفق المليارات على بحوت علمية مختلفة، لكن أين دور جيوشنا العربية في المجالات العلمية العلوم العلمية والإنسانية الأخرى، فالجيوش العربية بلا أدنى شك تلتهم في غالب الأحيان نصف دخل الدولة السنوي أن لم يكن أكثر، لكننا لا نجد على أرض الواقع لهذه المؤسسة العسكرية دور يجعلنا نفتخر أو نفاخر بها فبناء الطرق وإنشاء المنشآت المعمارية والمشاركة في الفعاليات الثقافية أو الرياضة لا تخرج عن كونها أعمال تقوم بها جل جيوش العالم، بل أن جيوشنا العربية ركزت على البيع والتجارة والربح المادي وبعضها لا عمل له إلا القيام بحراسة الفعاليات الرياضة والثقافية حتى أصبح من الممكن القول أن منسوبي هذه القوات الأكثر سمنة بين أفراد المجتمع المحلي لهذه الدولة.

لذلك فأني أدعو القيادات السياسية في بلداننا العربية إلى تفعيل أهم دور له وهو المشاركة الحقيقية في البحث العلمي بشقيه العسكري والمدني، فالبريد الإلكتروني الذي بدأ مع الجيش الأمريكي بهدف تواصل أفراده المنتشرين في أنحاء العالم تحول مع الوقت إلى حاجة ضرورة للإنسانية. فعلى وزارات الدفاع في عالمنا العربي التعامل بجدية مع الجامعات المحلية لإجراء الأبحاث في جميع جوانب الحياة، فهي أغنى قطاعات الدولة ولا يوجد بها -كما نعتقد على الأقل- بيروقراطية القطاعات المدنية، فهذا الحبل المقطوع بين الجيش والمجتمع يجب إعادته عن طريق تبني وزارات الدفاع دراسات وأبحاث علمية تصب في خدمة المجتمع الوطني أولاً والإنساني ثانيًا.

فلا يمكن للجيوش أن تقيم صناعات عسكرية دون تفاعلها مع قطاعات البحث العلمي في الجامعات، وكي تبتعد هذه الجيوش عن دور التاجر أو المزارع أو لا دور على الاطلاق إلى الدور الحقيقي لها في غير أوقات الحروب وهو بناء المجتمع الإنساني.

أرجو أن تجد هذه الفكرة القبول عند أصحاب القرار في قواتنا العربية التي نفخر بقيامها بدورها في استتباب الأمن في بلادنا العربية، وتأخذ طريق البحث العلمي الجاد مع المتخصصين في الجامعات كل في مجاله وتخصصه سواء أكان في المجال العلمي التطبيقي أو المجال العلمي الإنساني، والله من وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *