السعودية… من وجهة سياحية إلى صناعة مستقبل السياحة العالمية
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لم تعد السياحة في المملكة العربية السعودية مجرد صناعة اقتصادية أو نشاط ترفيهي، بل تحولت إلى أداة دبلوماسية تصنع صورة المملكة وتعيد رسم مكانتها على الخارطة الدولية. في إطار رؤية 2030، وضعت السعودية السياحة في قلب استراتيجيتها التنموية، ليس باعتبارها قطاعًا خدميًا فحسب، بل باعتبارها لغة عالمية للتأثير الثقافي والاقتصادي والسياسي.
الأرقام تعكس حجم هذا التحول: فقد استقبلت المملكة في عام 2024م أكثر من 116 مليون زائر محلي ودولي، بإنفاق تجاوز 284 مليار ريال سعودي، مع فائض سياحي قياسي دعم الاقتصاد الوطني. وفي الربع الأول من 2025م، تصدرت السعودية العالم في نمو عائدات السياحة الدولية بنسبة +102% مقارنة بعام 2019م، لتصبح أسرع الوجهات نموًا ضمن دول مجموعة العشرين. هذه المؤشرات لا تمثل نجاحًا اقتصاديًا فقط، بل تؤكد أن السياحة السعودية تحولت إلى رافعة استراتيجية للقوة الناعمة.
لكن القيمة الأعمق تكمن في القصة التي ترويها المملكة للعالم. الحج والعمرة باتا نموذجًا في إدارة الحشود باستخدام “إنسانية” الذكاء الاصطناعي والأنظمة الرقمية، حيث تحولت التجربة الروحية إلى مختبر عالمي للابتكار وتطوير علوم إدارة الأزمات والتنظيم الحضري والاستدامة. موسم الرياض أصبح منصة ثقافية ودبلوماسية تستقطب العالم، من الرياضة إلى الفنون والتقنية، فيما يعزز كأس العالم للألعاب الإلكترونية وقمم التقنية مثل ليب (LEAP) صورة المملكة كعاصمة للابتكار وصناعة المستقبل.
المشاريع التنموية الكبرى مثل نيوم، القدية، والبحر الأحمر، لم تُصمَّم كوجهات سياحية فحسب، بل كمختبرات مفتوحة لتجربة حلول جديدة في إدارة الطاقة المتجددة، حماية البيئة، وتقديم أنماط معيشة وسفر مبتكرة لكن مستدامة. فهي مساحات لتلاقي العقول وتبادل المعرفة، حيث تلتقي الصناعات الإبداعية بالتكنولوجيا الحديثة، وتتشكل شراكات جديدة تفتح آفاقًا للاستثمار والبحث العلمي. ومن الأمثلة البارزة مشروع قمم السودة (Soudah Peaks) الذي يستهدف جذب مليوني زائر سنويًا ويضيف أكثر من 7.8 مليار دولار للناتج المحلي، ليكون شاهدًا على كيف تتحول التنمية السياحية إلى محرك اقتصادي واجتماعي مستدام.
ولم يتوقف أثر هذه المشاريع عند حدود السياحة أو الاقتصاد، بل تجاوزها ليصل إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي العالمية، فقد ذكر لي أحد أصدقائي، وهو بروفيسور في إحدى الجامعات البريطانية متخصص في التقنية والذكاء الاصطناعي، أنه أصبح يستخدم المشاريع والحلول الابتكارية السعودية كنماذج تعليمية و”بذور بحثية” يبني عليها الطلاب مشاريعهم وأبحاثهم التطبيقية، وهذا يعكس أن السعودية لم تعد فقط تستورد المعرفة، بل باتت تصدّر أفكارًا ومشاريع يمكن للعالم أن يتعلم منها في قضايا الطاقة المتجددة، المدن الذكية، وإدارة الموارد المستدامة.
هذا التوجه يشمل أيضًا السياحة الرياضية التي باتت جزءًا من النسيج الاقتصادي والثقافي للمملكة. فمع استضافة كأس العالم 2034م وألعاب آسيا الشتوية 2029م، يجري تطوير بنية تحتية رياضية متقدمة تشمل ملاعب ذكية وأيقونية: استاد الملك سلمان الدولي الذي سيصبح معلمًا حضريًا وثقافيًا وسط العاصمة، استاد جدة المركزي في مشروع وسط جدة، وملعب القدية الذي يعكس هوية المشروع كمدينة للترفيه والرياضة، إضافة إلى ملعب نيوم الذي يُبنى داخل “ذا لاين” بارتفاع فريد، لتكون جميعها معالم حضارية تتجاوز حدود الرياضة إلى نمط حياة متكامل يعزز من الابتكار والاستدامة. وفي بعد عالمي أوسع، نقلت السعودية جزءًا من منتجها الرياضي إلى الخارج كما ظهر في إقامة كأس السوبر السعودي في هونغ كونغ، خطوة تعكس قدرة الدوري والأندية السعودية على الانتشار عالميًا على غرار الدوريات الأوروبية الكبرى، لكنها تحمل خصوصيتها كأداة دبلوماسية وسياحية واقتصادية. فالمباراة هناك لم تكن مجرد حدث كروي، بل وسيلة لبناء قواعد جماهيرية جديدة، وجسرًا لتحفيز الرغبة في زيارة المملكة، بما يجمع بين الرياضة والسياحة والثقافة في تجربة متكاملة تؤكد أن الرياضة السعودية أصبحت دبلوماسية ناعمة جاذبة مؤثرة على الساحة العالمية.
ولأن السعودية تدرك أن صناعة السياحة مسؤولية عالمية، فقد أطلقت مؤخرًا المجلس العالمي للسياحة (TOURISE)، وهو كيان تأسيسي جديد وغير مسبوق، يضم نخبة من القادة الدوليين من WTTC وAmadeus و TikTok وCirque du Soleil وغيرهم. المجلس، برئاسة وزير السياحة أحمد الخطيب وعضوية فهد حميد الدين نائبًا للرئيس، يهدف إلى صياغة مستقبل السياحة لعقود مقبلة، عبر معايير جديدة تقوم على الاستدامة، الابتكار، والبحث العلمي والتطوير المستدام. ومن المقرر أن تستضيف الرياض أولى قمم (TOURISE) في نوفمبر 2025م، لتصبح المنصة العالمية الأبرز لصناعة القرار السياحي.
إن ما تقدمه المملكة اليوم ليس تجربة سياحية عابرة، بل حلولًا للعالم في إدارة الحشود، الابتكار التقني، حماية البيئة، وتطوير البنية التحتية الرياضية والثقافية ومنظومة النقل والطيران بما يضمن استدامة التجربة السياحية. هذه ليست مجرد إنجازات محلية، بل رواية وطنية تفتح آفاقًا للتعاون الدولي، وتؤكد أن السعودية تقدم للعالم نموذجًا جديدًا في كيفية جعل السياحة رافعة للمعرفة والتنمية والازدهار المشترك.
ختامًا، السعودية لا تدعو العالم لزيارتها فحسب، بل لتكون شريكًا في قصة تُروى عن حضارة غنية، ثقافة متنوعة، ورؤية مستقبلية تجعل من السياحة جسرًا للتقارب والسلام وأداة لصناعة مستقبل أكثر استدامة وابتكارًا.