نادي الوحدة… حلم المليار مشجع

د. طلال المغربي
د. طلال المغربي

في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها القطاع الرياضي السعودي ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030، تبرز فرصة نادرة لتفعيل أحد أهم الأصول الرياضية في أقدس بقاع الأرض: نادي الوحدة بمكة المكرمة.

ورغم هبوط الفريق الأول أخيرًا إلى دوري “يلو”، ورفض الاحتجاج المقدم ضد نادي النصر بعد مداولات طويلة، إلا أن هذه المرحلة لا يجب أن ينظر إليها كإخفاق، بل كفرصة لإعادة بناء نموذج استثنائي يعكس هوية مكة ويحول النادي إلى مؤسسة رياضية واقتصادية وثقافية عالمية.

نادي الوحدة من أقدم الأندية السعودية والعربية، لكنه ظل يتأرجح بين الصعود والهبوط دون استثمار فعلي في ميزة لا يمتلكها أي نادٍ في العالم: الموقع. فالنادي ينتمي إلى مكة المكرمة، المدينة التي تستقبل سنويًا ملايين المسلمين، ويعشقها أكثر من مليار مسلم. هذا الارتباط الروحي والجغرافي يمنحه إمكانية أن يتحول إلى أقوى علامة تجارية رياضية في العالم الإسلامي، متى ما تم استثماره برؤية متكاملة.

ومن هذا المنطلق، فإن نموذج الربط بين الرياضة والمكان المقدس يمكن أن يمتد مستقبلاً إلى أندية أخرى مثل أحد والأنصار في المدينة المنورة، بما تحمله طيبة الطيبة من مكانة تاريخية وروحية لدى المسلمين حول العالم، ما يجعلها مؤهلة أيضًا لصناعة تجربة رياضية وثقافية فريدة إذا ما توفرت البنية التحتية والاستراتيجية المناسبة.

من أبرز التحديات الحالية أن مباريات الفريق تُقام في ملعب مدينة الملك عبدالعزيز الرياضية بالشرائع، الواقع خارج حدود الحرم، والذي يصعب الوصول إليه خاصة خلال مواسم الزحام مثل رمضان والحج. كما أن تواجد محترفين غير مسلمين في الفريق يزيد من تعقيد الدخول إلى مكة. وفي المقابل، يتدرب الفريق ويقيم معظم لاعبيه في جدة، ما يعزز مقترح السماح بإقامة بعض مباريات الفريق هناك، لسهولة الوصول وتوفّر البنية التحتية الرياضية، مما يرفع كفاءة التنظيم ويُحسن من تجربة الجماهير محليًا ودوليًا.

أما المقر التاريخي للنادي في حي التنعيم، فهو جوهرة غير مستغلة. يقع على بُعد أمتار من مسجد التنعيم، في موقع استراتيجي يجمع بين العمق الديني والجغرافي، ويُعد مثاليًا لتطويره كمدينة رياضية متكاملة. يمكن تحويله إلى مركز حيوي يحتضن المباريات، ويضم متحفًا رياضيًا يوثق تاريخ مكة ونادي الوحدة والرياضة السعودية. وكونه خارج حدود الحرم، فهو مؤهل لاستقبال الزوار من المسلمين وغير المسلمين، مما يجعله معلمًا ثقافيًا وسياحيًا فريدًا.

كل ذلك ينسجم مع مشاريع كبرى مثل “مسار مكة”، وبرنامج الربط الجوي، والجهود الوطنية لرفع أعداد المعتمرين إلى 30 مليون سنويًا. ويمكن أن يكون نادي الوحدة بوابة للربط بين العمرة والسياحة الرياضية، بتطوير منتجات وخدمات تستهدف الزوار المسلمين من حول العالم، من قمصان وهدايا إلى محتوى رقمي وتجارب تفاعلية، ليصبح النادي مصدر إيرادات مستدامة بعيدًا عن نتائج البطولات.

بمعنى آخر، السياحة الرياضية والتجربة العالمية – الربط بين الرياضة والسياحة الدينية يمكن أن يُحوّل نادي الوحدة إلى علامة تجارية عالمية، فوجوده في مكة يمنحه ميزة لا تُضاهى. أكثر من مليار مسلم حول العالم يحملون شغفًا بزيارة مكة، وتطوير منتجات رياضية وسياحية موجهة لهذه الفئة يمكن أن يجعل من نادي الوحدة أغنى نادي سعودي من حيث القاعدة الجماهيرية العالمية، والمبيعات غير المعتمدة على البطولات فقط.

وكما نجح نادي تشيلسي الإنجليزي في أن يجعل من ملعبه في لندن وجهة سياحية وثقافية متكاملة تضم متحفًا، متجرًا، جولات ميدانية ومقاهي، واستُخدم ضمن باقات السفر الرسمية إلى المدينة، يمكن لنادي الوحدة أن يحقق نموذجًا أعظم، إذ يقع في مدينة تهفو إليها قلوب المسلمين من كل أنحاء العالم.

تحويل مقر النادي في التنعيم إلى مركز رياضي وسياحي يُعزز من تجربة الزائر، ويجعل من الوحدة جزءًا حيًا من رحلة العمرة والزيارة، ويمنح مكة نافذة جديدة للتعبير عن هويتها، وقيمها، وابتكارها، عبر الرياضة.

تفعيل هذه الرؤية يتطلب مقومات أساسية، أولها الرغبة ومن ثم تبدأ من البنية التحتية، وجودة الملاعب والمرافق، مرورًا باستقطاب الشراكات الاستثمارية، وتوسيع قاعدة الرعاة، وتنوع مصادر الدخل، ووصولًا إلى تطوير حقوق البث والنقل الإعلامي عبر منصات دولية.

وفي صميم هذا المشروع، يجب أن تكون هناك أكاديميات رياضية قوية، تستقطب الموهوبين من داخل المملكة والعالم الإسلامي، وتحتضنهم في بيئة تربط بين الرياضة والقيم. مكة بقيمتها الروحية والاجتماعية مؤهلة لتكون مركزًا عالميًا للأبحاث في مجالات الصحة، جودة الحياة، والرياضة، خاصة بالشراكة مع الجامعات المحلية والدولية، مما يمنح نادي الوحدة دورًا أوسع كمحفّز للابتكار وريادة الأعمال في القطاع الرياضي.

العلامة التجارية للنادي تُبنى على هويته وقيمه وموقعه، وليس فقط على البطولات. أمثلة عالمية عديدة تُثبت هذه الحقيقة، مثل نادي كريستال بالاس الإنجليزي، الذي لم يحقق أي بطولة كبرى منذ أكثر من 160 عامًا، لكنه يحظى بجماهيرية واسعة من مختلف الفئات العمرية. كذلك الحال مع نادي سندرلاند، الذي رغم سنواته في الدرجات الأدنى وعودته مؤخرًا إلى الدوري الممتاز، لا يزال يحتفظ بقاعدة جماهيرية وفية محليًا وعالميًا، بفضل ارتباطه بالمجتمع والحي واقتصاد المدينة، ضمن استراتيجية تكاملية مدروسة.

ويُعزز هذا التوجه العالمي ما أظهرته دراسة معهد Kantar عن نادي مانشستر يونايتد، الذي يُعد من أقوى العلامات التجارية الرياضية في العالم. حيث كشفت الدراسة أن نحو 659 مليون مشجع حول العالم يعتبرون أنفسهم من أنصار النادي، رغم أن 85% منهم لم يسبق لهم زيارة مدينة مانشستر أو ملعب النادي. هذا المثال يُبرز كيف يمكن للهوية، والمحتوى، والتجربة الرقمية أن تصنع جمهورًا عابرًا للحدود، حتى دون ارتباط مباشر بالموقع أو التتويج بالألقاب.

ومن هذا المنطلق، فإن نادي الوحدة، بارتباطه بمكة المكرمة، يحمل أفضلية روحية وعاطفية فريدة يتشاركها أكثر من مليار إنسان. وإذا ما تم استثمار هذه القيمة من خلال تطوير المحتوى، وإقامة متحف رياضي، وتصميم منتجات مستلهمة من روح المكان، إلى جانب الحضور الرقمي الفعّال، يمكن للنادي أن يبني قاعدة جماهيرية عالمية متفاعلة، ويصبح قصة سعودية رياضية ملهمة للعالم والعالم الإسلامي.

النماذج العالمية تُظهر بوضوح أن العاطفة والهوية يمكن أن تكون أساسًا متينًا لـ نجاح رياضي واستثماري مستدام.

اليوم، نحن أمام فرصة تاريخية لتحويل نادي الوحدة إلى نموذج عالمي يجمع بين الرياضة، السياحة، الثقافة، والاقتصاد. المطلوب ليس فقط ضخ الاستثمارات، بل بناء رؤية جريئة، تعيد تقديم النادي كمنصة لنشر قيم الرياضة، وتعزيز الهوية، وفتح آفاق جديدة أمام القطاع الرياضي في المملكة والعالم الإسلامي.

إذا اجتمع المكان بالإرادة، والتاريخ بالابتكار، فإن نادي الوحدة قادر أن يكون ليس فقط ناديًا ناجحًا، بل قصة سعودية ملهمة للعالم بأسره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات