الدمام… مدينة لا تهدأ لأنها تعرف من تكون

حجم الخط |
- A+
- A
- A-
في مجلسٍ من مجالس الأصدقاء، جاء أحدهم على ذِكر كتاب الصديق والزميل الأستاذ عدنان المعيبد، “الدمام… نافذة جديدة للتاريخ”، امتدح الحاضرون عُمق ما احتواه الكتاب من تفاصيل، فقلت – وأنا أعلم – إن لعدنان كتابًا آخر في مراحله الأخيرة، لا يؤرّخ للماضي فقط، بل يُوثّق الحاضر، حاضر الدمام التي نعيشها… بأحيائها النابضة، وأهلها الطيبين، ومثقفيها، وملامحها التي تتشكل بهدوء لكن بثقة.
لكن أحد الحاضرين قاطعني مستنكرًا:
“وماذا بها الدمام؟!”
سؤالٌ خفيف في النبرة، لكنه ثقيل في وقع المعنى.
سؤال يستكثر على الدمام أن تُكتَب، أو أن تُفرد لها صفحات في كتاب.
تساءلتُ داخلي: كم من الأحكام الجائرة تُبنى على تصوّرات قديمة؟ وكم من الانطباعات المضلّلة ما زالت تحكم على المدن بملامحها التي تجاوزها الزمن؟
كثيرٌ من الناس يرى الدمام بعين الأمس… أحياءٌ قديمة، وشوارع محدودة، وهدوءٌ يظنه سكونًا، بينما الحقيقة مختلفة تمامًا، الدمام اليوم ليست تلك الصورة النمطية التي علقت في أذهانهم، بل مدينةٌ تتجدّد كل صباح، تُوسّع آفاقها، وتعيد تشكيل هويتها العمرانية والبشرية.
لكن بعض المنتقدين ما زالوا يمرّون على طريقٍ واحد منذ ثلاثين سنة، على جانبيه أحياء قديمة، دون أن يلتفتوا للأحياء الجديدة التي تشكّلت، ولا يملكون رغبة في اكتشافها، ثم لا يمانعون في تكرار أحكامهم القديمة بأن الدمام لم تتغير.
المشكلة أنهم يُعيدون نفس الكلام منذ عقود، ويظنون أن المدينة ما زالت كما كانت… بينما في الواقع، هناك دمام أخرى.
دمامٌ أكبر، وأجمل، وأكثر اتساعًا وحيوية، فيها أحياء حديثة، وطرقات واسعة، وجسور، وأنفاق، ومبانٍ حديثة، ومراكز حيوية لا تمتّ بصلة لتلك الصورة التي لا تزال تعيش في أذهان بعضهم.
الدمام ليست فقط طريق الملك فهد وما حوله، ولا يمكن اختصارها بطريق أو حي، كما لا يُحكم على مدينةٍ نابضة من خلال زحمة مرورية أو حي قديم.
الدمام لا تتمدد فقط، بل تنمو وتتحول، وتُعيد صياغة أحيائها بلمسة من الرؤية، ومواصفات من المستقبل. تتوسع المدينة في كل الجهات شرقًا نحو مشاريع الواجهة البحرية ومرافئ الترفيه، وغربًا حيث التجمعات السكنية الحديثة والخدمات الذكية، وجنوبًا مع المخططات الجديدة والمرافق الطبية والتعليمية، وشمالًا حيث التمدد الطبيعي نحو ضواحي أكبر وأكثر تكاملًا، وعلى امتداد هذا التمدد، تظهر أحياء نموذجية، وخدمات متكاملة، ومرافق مُؤنسنة، تليق بجودة الحياة التي تبنتها رؤية المملكة 2030.
في الدمام اليوم مشاريع حكومية وخاصة تتنافس على رسم المستقبل ،بعضُها قائمٌ وفاعل، وبعضها الآخر قيد الإنشاء والتطوير، نرى مستشفيات جديدة، ومراكز تجارية كبرى، ومولات تضج بالحياة، ومراسي بحرية (مارينا) تعزز السياحة الساحلية، وفنادق ومنتجعات تعكس ذوق المدينة ورغبتها في استقبال الزائرين، ومدن ترفيهية تليق بالعائلات، وحدائق واسعة، وتطويرًا متواصلًا للشواطئ والممشى البحري، وتحسينات طالت مرافق قديمة لتعود نابضة بروح جديدة.
هنا، على ضفاف الخليج، لا تنام المدينة… فالدمام ليست عاصمةً للشرقية فحسب، بل مركز القرار، وملتقى البحر والإدارة، ومنصة الحاضر التي لا تهدأ.
هي المدينة التي انطلقت منها القصة… من بئر الدمام رقم 7، إلى الميناء الذي يشهد ولادة كل صباحٍ جديد، إلى شبكة الطرق التي تربط المملكة بالعالم.
ذلك البئر، الذي سُمي لاحقًا بـ”بئر الخير”، لم يكن مجرد اكتشاف جيولوجي؛ بل مفترق طرق غير وجه المملكة والمنطقة والعالم ،ففي عام 1938، أعلنت الدمام عبر هذا البئر ميلاد عصر النفط السعودي، وكان شرارة انطلاق التحول الاقتصادي الهائل، ومفتاحًا لعقود من التنمية الشاملة. وربما لا يوجد موقعٌ في تاريخ صناعة النفط له هذا التأثير الرمزي والاقتصادي كما كان لبئر الدمام رقم 7.
للغريب تبدو الدمام هادئة… لكنها تخفي بين الموج والصمت حركةً لا تتوقف، مدينةٌ تُدار بالعقل، وتُبنى بالتفاصيل، وتجمع بين تخطيط النقل، ووهج التعليم، وامتداد الرعاية الصحية.
ميناء الدمام ليس مجرد مرسى… إنه ذراع الوطن نحو البحر، يستقبل الرحلات البحرية العالمية، ويصدّر صورة المدينة كما يصدّر منتجاتها، ويصوغ انفتاحها على العالم، وهو شريان اقتصادي استراتيجي يُعزّز مكانة المملكة كمركز لوجستي عالمي، يربط الأسواق الإقليمية والدولية، ويدعم حركة الصادرات والواردات، ويُسهم في تنمية التجارة والصناعة والنقل البحري.
في قلب المدينة، يقف مبنى الإمارة شامخًا، يُشرف على شؤون المنطقة، ويرسم خطى التنمية، ويصنع من القرارات اليومية مستقبلًا طويل الأثر، بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز، أمير المنطقة الشرقية، وبدعم ومتابعة من صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن بندر بن عبدالعزيز، نائب أمير المنطقة الشرقية، واللذَين يقودان مسيرة التنمية المتوازنة في عموم مدن ومحافظات الشرقية، ومن ضمنها الدمام.
وعلى مقربة من الطريق السريع، يظل برج تلفزيون الدمام قائمًا بشموخه، بعد أن أدى دوره الإعلامي في المنطقة لعقود، وهو اليوم شاهد على حضور المدينة في المشهد الوطني، يمدّ القنوات الرسمية بالمحتوى والخبر، ويعكس حراك الشرقية بمهنية وهدوء.
وعلى مقربة من الخليج، تنبض جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالحياة الأكاديمية، تُشعل شموع الفكر، وتصنع أجيالًا لا تقل طموحًا عن البحر الذي تُطل عليه.
وعلى امتداد طريق الملك فهد الحيوي، تقف صحيفة “اليوم” كعينٍ إعلامية للمنطقة، تسجّل وتنتقد وتحتفي، فيما تجاورها غرفة الشرقية التي ظلت على مدى عقود نَفَس الاقتصاد، وحاضنة الحراك التجاري والاستثماري.
وفي خلفية هذا المشهد، يتردّد صوت القطار كل صباح، يحمل معه الموظفين والطلاب والحكايات… يربط الدمام بالعاصمة الرياض كأنما يربط القلب بالعقل.
هذه هي الدمام: مدينة ثقيلة، وأصيلة، وفيها أعمدة كل شيء.
وفي المساء، تتهيأ المدينة لوجهها الآخر… حيث الهدوء لا يعني السكون، بل استعدادٌ لصباح جديد.
وللبحر في الدمام وجه آخر لا يُنسى… وجه الصيد والغوص، ومراكب السنبوك التي لا تزال تروي ذاكرة الخليج، وتربط الأجيال برزقٍ طازج وشغفٍ قديم، وعلى امتداد الساحل، لا يهمس البحر بالموج فقط، بل يبوح بحكايات البحّارة، وخرائط الغوص، وروح المغامرة التي كانت تُبحر من هنا، وتعود كل مساء برائحة الملح والبطولة.
ومن فوق، يعلو هدير الطائرات من مطار الملك فهد الدولي؛ نافذة واسعة للمنطقة، وبوابة حضارية مشرعة على العالم، تمثل الدمام كما يجب أن تُرى.
وفي جنوب المدينة، ينبض نادٍ لا يشبه سواه… نادي الاتفاق، الذي سكن ذاكرة الجماهير ببطولاته، وكانت تلك البطولات من أوائل ما جُلب للوطن على يد نادٍ سعودي، واحتضن أجيالًا من العاشقين، وكان وجهًا رياضيًا يليق بمدينة لا تعرف إلا الاجتهاد، فهو أول نادٍ من المنطقة الشرقية والوحيد الذي يحقق كأس الملك، وهو أيضا الوحيد من أندية الشرقية الذي حقق الدوري الممتاز، كما كان أول نادٍ سعودي يحقق بطولات خليجية وعربية، وأول فريق محلي يفوز ببطولة الدوري الممتاز بلا هزيمة، ومنه خرجت أسماء بارزة في المنتخب الوطني، ومدرب عظيم وقدير وهو الكابتن الكبير خليل الزياني الذي قاد المنتخب السعودي لإنجازات قارية، وقبلها حقق للإتفاق بطولات متفردة، وحقق لفريق القادسية من الخبر أول بطولة في تاريخه، فضلًا عن إداريين تقلّدوا مناصب رفيعة في الاتحادين السعودي والآسيوي.
وفي قلب الدمام القديم، يمر طريقٌ لا تنساه الذاكرة… “شارع الحب”، حيث تختلط ملامح المدينة بحكايات العائلات والروائح الأولى، وحيث التاريخ ليس مكتوبًا على الجدران، بل محفوظًا في القلوب، وإلى جواره، يقف سوق “عيال ناصر” بكل ما فيه من دفء البساطة وأصالة التفاصيل؛ سوقٌ يُشبه الدمام، صادق في حضوره، ومتجذر في الذاكرة.
وللدمام ما يندر في المدن… مجتمعٌ لا يصف مدينته، بل يعشقها، علاقة لا تُفسَّر بالعمران أو بالموقع، بل بالمحبة التي تتوارثها الأجيال، ويكتبها الناس في سلوكهم، ولهجتهم، وحنينهم.
وفي تفاصيلها الثقافية، تسكن جمعيات الأدب والفنون، وعلى رأسها جمعية الثقافة والفنون التي تحيي المشهد بالفعاليات والمعارض، وتفتح الباب أمام مواهب تبحث عن جمهور يشبه المدينة… بسيطٌ، وعميق، وللدمام رموزٌ ثقافية كبيرة، من شعراء وأدباء ومفكرين، كان لهم حضور بارز في المشهد الثقافي الوطني والعربي، مثل محمد العلي، وعلي الدميني، وعبدالعزيز مشري، وغيرهم، ولو أردت أن أسرد رجالات الدمام من علماء، ومفكرين، وشعراء، ورجال أعمال، وتجار، ورياضيين لضاقت المساحة، ولعل زميلي عدنان المعيبد يفيض في كتابه المرتقب بتفاصيلهم، فالدمام ليست وليدة لحظة، بل مدينةٌ عمرها آلاف السنين، مرت عليها حضاراتٌ قديمة، ولا تزال تُقدّم للوطن الأفذاذ في كل مجال.
كما تحتضن المدينة مقرّات فروع الوزارات والهيئات الحكومية، وتحتوي على مرافق سيادية بارزة، وفيها قصر الخليج الجميل الذي شهد العديد من المناسبات الرسمية والأحداث الكبرى، ومنها انعقاد القمة العربية في عام 2018، مما يعكس مكانة الدمام كموقع استراتيجي لصناعة القرار.
ولأنها تُدرك حجمها، لا تبخل الدمام على جيرانها… تمدّ لهم كورنيشًا هو الأطول على الساحل الشرقي، وتمنحهم بحرًا يُهديهم صيدًا طازجًا كل صباح، وسوقًا مركزيًا يفيض بالخضار والثمار، وكأنها تقول: ما أملكه… لنا جميعًا.
ليست الدمام مدينةً تنام على ضوء أعمدة الطريق… بل تصحو دائمًا على فكرة، وإن مررت بها، فلا تندهش من تعدد ملامحها… فهي لا تحب أن تضعك في إطار واحد، بل تتركك تختار صورتها كما تراها أنت، المهم ألا تربط الدمام بطريق عنق الزجاجة وتعمم الفكرة، فأنا على يقين أن لهذا الطريق، طريق الملك فهد، مشروعًا كبيرًا متوقعًا سيفك الزحام ويغيّر وجه المكان المحيط به بإذن الله.
الدمام ليست نسخةً من أحد، بل توقيعٌ خاص، ونغمةٌ لا تُشبه إلا نفسها، هكذا كانت… وهكذا ستبقى.. مدينة لا تهدأ.