حوار مع جنّي

ماهر البواردي

تمددتُ على تلةٍ رمليةٍ ذهبيةٍ ذات مساء.. هربتُ من صخب المدينة لسكون الصحراء.. هواءٌ عليلٌ ينساب بعذوبة.. له صوت وحيف في صيوان الأذن..
السمع مرهَف.. والبصر للسماء متوجِّه.. متأملًا في ملكوت الله، مستشعرًا جبروته وقوته وعظمته..

أطلقتُ في عنان ذلك الفضاء الفسيح أفكاري وأحلامي.. لعلها تنسجم هناك، وتتحد وتهطل لي حروفًا أكتبها.. يسيرة الفهم، سلسة المعاني..
وفجأة.. وصلني صوت مهيب من رحم الظلام المحيط بي: (مَن أنت؟).. اعتدلتُ في جلستي، وازداد خفقان قلبي حتى شعرتُ بأنه سوف يخرج من جسدي.. فقلت: بسم الله مَن أنت؟..

سمعتُه يضحك وهو يقول: لا تخف.. أنا من الجن، وأنت ضيفٌ في مكاني؟.. قلتُ له: تعال وقابلني وجهًا لوجه… بدأتُ أستعيد بعضًا من قوتي!.. فقال: لا أريد زيادة خوفك، فنبضات قلبك أزعجتني بتسارعها..

استعدتُ نفسي، وتمالكتُ أعصابي، وازدادت ثقتي.. وقلتُ إنها لفرصة عظيمة أن يكون هذا الحوار بين البشر والجنّ.. سكبتُ لنفسي بيالة شاهي.. ارتشفتُها.. وإذ به يُنادي: ولِمَ لا تسكب لي بيالة..؟! فسكبتُ له واحدة ووضعتُها بعيدًا.. وعُدتُ لمكاني.. وسمعتُ صوته وهو يرتشف.. وقال: ما أزكى الشاهي الذي تُعِدُّه..
فقلتُ له: هل صحيح أنكم تدخلون أجساد البشر وتعذبونهم، وتخرشون أهلهم.. فقال أولئك الشياطين.. أما نحن فمسالمون.. نعيش معكم على هذه الأرض، وإن كنّا قبلكم خلقًا.. فقلت له: أتذكر كاتبًا للعدل تورَّط باختلاساتٍ ماليةٍ بمئات الملايين، وألقى باللائمة عليكم؟..

فضحك طويلًا وقال: وهل لديكم عقول تستدركون بها تلك الحماقات..؟! فضحكتُ معه كثيرًا.

وقلتُ: هل لكَ أنت وجماعتك أن تساعدونا قليلًا في تخويف البشر الذين يُتلفون الصحراء، ويُلقون بالنفايات فيها.. فقد ضِقنا ذرعًا بهم.. فقال ذلك أمر مقدور عليه.. فابتسمتُ.. وقلتُ له طامعًا بشيءٍ أكبر..

فقلت: هل لكم أن تساعدونا في تسريع وتيرة مشاريعنا الخدمية.. فقال صُبّ لي بيالة شاهي كي أستوعب ذلك.. وبعد أن ارتشف، قال: ليس بيدنا شيء.. لكن ممكن أن نُساعدك في أن نروِّع كل مسؤولٍ مُقصِّر.. فيمكن أن ينفع فيهم.. راقت لي فكرته.. وقلتُ لِمَ لا.. فتلك فكرةٌ سديدة..

وأنا في قمة فرحي بتلك النتائج.. قلتُ له خدمة أخيرة.. تحمَّلني.. فقد أثقلتُ عليك.. قال: لا عليك.. وما هي؟ فقلت: لدينا أناس يمارسون الدجل والشعوذة باسم الدين.. قال: وما أكثرهم، وهم محور سواليفنا في قبيلتنا.. قلتُ: عليكَ بهم.. فقال: تم..

في النهاية.. قلتُ له: هل هي صحيحة بعض قصص البشر عنكم؟ فقال لي وهو يتنهّد بعُمق: “هو أنتم البشر خليتم شيء.. عبثتم بكل شيء حتى نحن معشر الجنّ..” وساد صمت.. ورمى لي بيالة الشاهي من بعيد، وإذ هي عند قدمي.. وقال: أكرمك الله، ولنا لقاءٌ آخر.. وغادرني بعد أمسيةٍ جميلة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *