السودان إلى أين؟

عندما أطلق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بعض المصطلحات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط مثل «الربيع العربي» و«الفوضى الخلاقة» و«الشرق الأوسط الجديد»، الذي سيتحول من أنظمة ديكتاتورية إلى نظام ديموقراطي تشارك في بنائه مؤسسات المجتمع المدني (بحسب رأي من أطلق هذه الشعارات)، هلل البعض وكبر مرحباً بهذا التوجه، ولم يمضِ وقت طويل حتى انكشف المستور وسطعت شمس الحقيقة، واتضح أن هذه المصطلحات ما هي إلا أوهام في أذهان من أطلقها ومن صدقها، وبالتالي تتحول تلك المصطلحات إلى الخريف العربي والفوضى الهدامة وما إلى ذلك. هذا مع استبعاد نظرية المؤامرة التي يعتقد الكثير بأنها جزء لا يتجزأ من فكر من أطلق فكرة «الربيع العربي» و«الفوضى الخلاقة».

هذه الشعارات داعبت مخيلات البعض من الطبقات الدنيا الذين يعانون من الفقر والبطالة وقلة ذات اليد في بعض الدول العربية، لتنطلق الاحتجاجات أولاً في تونس بعد أن أحرق شخص نفسه لتعم التظاهرات أرجاء تونس بأكملها، مطالبة بإسقاط النظام وإسقاط الرئيس زين الدين بن علي. سقطت حكومة زين الدين بن علي وتغيرت الأوضاع والوجوه التي تحكم البلد، لكن الأوضاع الاقتصادية استمرت في سوئها إن لم تكن أسوأ من قبل، بسبب صراعات القوى السياسية وقلة الموارد.

في ليبيا تم إسقاط نظام معمر القذافي، وهو ولا شك نظام سيئ؛ فما الذي حدث في هذا البلد؟ صراعات دموية بين جماعات مختلفة التفكير والآيديولوجيا تغذيها دول غربية وإقليمية وتمدها بالمال والسلاح، استنزاف لموارد البلد وقتل وهدم وتدمير.

أما في مصر فقد شنت حملة شعواء مشبوهة ضد الرئيس حسني مبارك بزعامة حزب الإخوان المسلمين المدعومين من بعض الدول الإقليمية مثل تركيا وإيران ومن يسير بفلكهم، استمر الصراع لفترة سفك فيها الكثير من الدماء، ليتنحى الرئيس حسني مبارك وتجرى انتخابات رئاسية يفوز بها حزب الإخوان المسلمين. تلك الانتخابات اتهم الإخوان بتزويرها لتنطلق الاحتجاجات من جديد، ما أدى إلى تدخل الجيش والسيطرة على «أم الدنيا» وحمايتها من شرور ما سمي بـ «الربيع العربي»، آسف أقصد «الخريف العربي» والفوضى الهدامة.

في سورية الجميع يسمع ويرى ما لحق بالشعب العربي السوري الشقيق من قتل وهدم وتدمير وتشريد تحت شعار الشعب يريد إسقاط النظام، وحكم شرس يريد البقاء حتى ولو على أنهار من دماء شعبه الذي شرد في أصقاع الأرض، من منا لا يتألم عندما يرى الشيوخ من الجنسين مع أطفالهم يعيشون في مخيمات لا تقي من زمهرير الشتاء أو لواهب الصيف المحرقة.

في العراق كانت البداية حيث أسقطت الحكومة بالقوة العسكرية، وتركت البلد للصراعات العقائدية والمذهبية والقبلية والطائفية، مدعومة بتدخل الدول التي تبحث عن مصالحها وليس عن مصلحة الشعب العراقي، كانت تجربة العراق مفتاحاً لتطبيقها في دول عربية أخرى (كما أسلفنا أعلاه)، ولكن ليس بطريقة الغزو الأجنبي، وإنما عن طريق دغدغة أحلام الفقراء، مستغلين وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لنشر الفوضى الهدامة. الغريب في جميع الدول العربية التي وقعت في فخ «الخريف العربي»، أن تنطلق التظاهرات والاحتجاجات تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، لم نشهد احتجاجات منظمة تطالب بإصلاحات محددة كما هو الحال في احتجاجات «السترات الصفر» في فرنسا، أو كما حصل في الأردن عندما انطلقت احتجاجات ضد رفع أسعار الوقود.

السودان هذا البلد قليل الموارد كثير السكان كثير المشاكل والصراعات، وأنا أشاهد عبر القنوات الفضائية ما يحدث فيه من استمرار الاحتجاجات، أقول ما أشبه اليوم بـالبارحة، الشعارات والهتافات نفسها من المحتجين؛ «الشعب يريد إسقاط النظام».. «الشعب يريد تنحي الرئيس». أخشى ما أخشاه أن ينزلق السودان إلى ما انزلق إليه من سبقوه في فوضى ما يعرف بـ «الربيع العربي»، أقصد الخريف العربي والفوضى الهدامة.

أسوق هذا الكلام ليس دفاعاً عن رؤساء تلك الدول، فكل له أخطاؤه، فيهم المتسلط والديكتاتور ومن يريد احتكار الحكم طوال العمر ومن يريد أن يورث الحكم لأبنائه في نظام جمهوري، وهناك من انتشر الفساد والمحسوبية في فترة حكمه. والأمر الثاني المستغرب أن الفوضى الهدامة لم تطل سوى أنظمة جمهورية ترفع شعارات طنّانة وتدعي التقدمية وترى أن الأنظمة غير الجمهورية أنظمة رجعية متخلفة. سقطت دول الشعارات التقدمية بعد أن طفح الكيل بشعوبها، وبقيت الدول العقلانية التي تبني بصمت بعيداً عن الشعارات الزائفة. والأمر الثالث الذي يربط بين هذه الدول التي ضربتها الفوضى هو كون حكامها من جهات عسكرية. التنمية يا سادة تتطلب بالدرجة الأولى توفير بيئة آمنة وبنية تحتية جيدة وأنظمة تحمي حقوق المستثمر والمواطن، رأس المال «جبان»، والمستثمر لن يجازف باستثماراته في مكان غير آمن لا يحميه من تقلبات أمزجة النافذين بالسلطة. أخشى ما أخشاه أن تطال الفوضى الهدامة دولاً أخرى لم تعتبر بما حدث لأشقائها من بقية الدول العربية، وأن تجتاحها عاصفة التغيير وتسقط في ظل الفوضى الهدامة التي لم تجلب لتلك الدول سوى النهب والسلب والقتل والتدمير، أما بالنسبة للشعوب العربية فلعلها تطالب بإصلاح الأنظمة القائمة بدلاً من المطالبة بإسقاطها والدخول في حلقات من الفوضى.

في الختام، أشير إلى حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «نعمتان مجحودتان الصحة في الأبدان والأمن بالأوطان»، وأرجو أن يعم السودان العزيز الأمن والأمان، وألا ينزلق للفوضى الهدامة.

تركي محمد السديري

نقلاً عن (الحياة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *