خربشة ومغزى

“فارس.. نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها”

أحمد بن عبدالله الحسين

فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها
مقوله مروية جزء من حديث مُرسل يكتنفها تأمل واستغوار لمدلولات وإسقاطات عن الفُرْس.

نَطحة
وجمعها نطحات معناها ضَرْبة ودفعه وأزاله وتشار أحيانا إلى ما يفعله الكبش والتيس والعنْز، ويقتاس من ذلك تناطحت الأمواج والسيول والرجال في الحرب. ودلالة المقولة أن فارس نطحة أو نطحتان أي تقاتل مرة أو مرتين وقيل إن فارس تنطح مرة أو مرتين فيبطل ملكها ويزول أمرها.

تاريخيا
أبرز الإمبراطوريات الفارسيّة التي ظهرت وسادت، أولها كانت الأخمينية ما قبل الميلاد، والتي تمكن من إسقاطها الإسكندر المقدوني، وآخرها الإمبراطورية الساسانية التي أزاحها العرب المسلمون في معركتي القادسية ونهاوند.

ولم يُقم للفُرْس بعدها إمبراطورية ذات توسع ونفوذ مطلق تناطح مباشرة قوى كُبرى ، بل حُكمت فارس في معظم أزمانها ولقرون طالت من أعراق أخرى غير آرية فارسية حتى أتت الفترة البهلوية في القرن العشرين التي لم تدم أكثر من أربعة وخمسين سنة.

ثم بعدها دخل الفُرْس في فِكرٌ تألّف ودعوة انتشرت مطلع العقد التاسع من القرن العشرين؛ حيث شكلت دولة ثيوقراطية بمرجعية ولاية الفقيه.

تلك الدولة منذ نشأتها بدأت تصارع قدرها وتحدياتها داخل حدودها الجغرافية وخارجها، حالمة لاستعادة إرثها الإمبراطوري الفارسي طوعت التمذهب الديني غطاء لها، واحترفت ميكيافيلية اسلوبا تُبرر وسائلها لتصدير ثورتها، وكأن بهذا صدى يتردد عند بعض دهاقنتهم ونُخبهم تكرار علو لنفوذ الأخمينين الساسانيين.

مفهوم تصدير الثورة
الذي هو جزء من دستور ونهج سياسي شهد ذروته وعنفوانه حينما تمدد غِيلة خارج حدود دولته، ولطالما تخلل تصدير الثورة بمظلة ولاية الفقية الدهاء والمكر وازدواجية السلوك، الذي وقع ضحيته اتباع لم يدركوا أنهم أدوات وملاقط يستغنى عنهم في شدائد الأزمات والموازنات.

سُنن التاريخ
ونواميس التدافع بين الأمم لها اعتبار وتكرار والفُرْس ليسوا استثناء، وما تم لهم عبر الأزمان سيدق جرسة مرة أخرى كما ترسب في ذاكرة البشر أنهم لن يصلحوا زماننا لتكوين كيان ذا توسع جغرافي يمتد آمادا يضيف للحضارة الإنسانية تمدناً وإثراءاً.

والشاهد على حالهم اليوم يدرك كم ضاقت سبلهم وتأَلَّب الكثير من حولهم وتململ من استظل بحكمهم حتى ليشمل قوميتهم.

الدارسون
لصفات الأمم والأعراق وسياقات النهوض والهزيمة فصلوا للاعتبار مناقب وآفات، والفُرْس أحدهم، ودونما تحامل أو استئثار نطرح نظرة نقدية لا تتخذ تعميما يحجب ما يقوله الباحثون عن الشخصية الفارسية، وهي أن عند الكثير من شرائحهم ،لها غور دفين جيني خصوصا عند من تمكن من حكمهم، أو لاذ بنفوذ بارز في مجتمعاتهم.
إن هنالك خصائص نفسية اتفق على ملاحظتها واستقائها من أطال التعايش معهم وخبر حياتهم وأخلاقهم.

الدراسات
عديدة ومتواترة عند الباحثين الذي ثبتوا ملاحظاتهم العلمية في بحوث ميدانية مدعومة بالأدلة الاستبيانية والشواهد التجريبية ناخذ مثلاً: ما طرحه عن الشخصية الإيرانية ومكوناتها الأمريكي جاك ميلوك ضمن كتاب، الثورة الإيرانية والتمدن الحديث، وقد استخلصها من بحث تجريبي قام به الأستاذ الأمريكي مارفن زونيس أجراه على ثلاثمائة شخصية إيرانية تمثل نخبة سياسية إيرانية داخل الحكم أو خارجه فيها استبيانات، وكذلك أضاف إليها جاك ميلوك دراسة مفصلة أخرى تم عملها سنة 1964 مِنْ قبل معهد الإيمان والدراسات الاجتماعية في جامعة طهران.

خلاصة
ما ذكرة جاك ميلوك من كلا الدراستين وتضمنها كتابه الثورة الإيرانية والتمدن الحديث، أن هناك أربع خصائص تنتصب واضحة للشخصية الإيرانية الفارسية المتوارثة.
أولا :
الإيمان بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها.
ثانيا :
سوء الظن أو الارتياب ملازم حين التفكير بالغير.
ثالثا :
القلق وعدم الاستقرار .
رابعا :
الاستغلال الشخصي للأفراد بعضهم البعض.

وللمزيد عن صفات الشخصية الفارسية فإن هنالك بحوثا أخرى أفاضت في التحليل قام بها الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان وله عِدّة كتب منشوره، والفرنسي أدور سابيليه بعنوان إيران من الجانب الآخر في كتابه إيران مستودع البارود، وكذلك بحث قام به المؤرخ العراقي الأستاذ عماد عبد السلام رؤوف في مقدمة كتابه الصراع العراقي الفارسي، وكلّ المصادر أسهبت في تحليل الصفات والتي تحوم حول الغدر والشك وسوء الظن، والشعور بالتفوق لحد الغطرسة وانتقاص الآخر، ومهارة التدليس والخدع الباطنية، والملق المتلون والمداهنة التي تتمثل بازدواجية وحربائية السلوك، وكذلك الخوف الذي يتمثل بالإنكفاء والجبن في الأزمات.

وهنالك صفة
تتخلل التفكير في موروث الفُرْس هي الطبيعة الإيحائية التي ينغمس فيها الفرد في خيالات وكأنه يعيشها ويتفاعل معها حقيقة، وهذا يتراكب فيهم في الطقوس والأساطير.

حزمة هذه المواصفات
صبغة مجتمع الفُرْس في جوانب كثيرة أدت الى ضعف الامتزاج مع الآخر والنحي للانعزالية والبحث عن الأمان.

كتاب الصراع العراقي الفارسي
لمؤلفه المؤرخ والمفكر العراقي عماد عبدالسلام رؤوف ذكر دوافع التي تختفي وراء النفسية الفارسية المعقدة قائلا:
“لقد تحول مركب النقص الحضاري هذا على مر العصور إلى عقيدة راسخة معادية لكل الحضارات العربية أو التي وجدت في الأرض العربية بل إنه تحول في اللاوعي الفارسي إلى نزعة عدوانية مدمرة لكل فكرة بل قيمة تأتي من هذا الاتجاه، وظّف الحكام الفرس هذه العقدة النفسية في صالح هيمنتهم على القوميات المحيطة بهم بأن أشعروها على الدوام بأن تصديهم لهذه المؤثرات رهين باستمرار الهيمنة المركزية عليها”.

وذكر أيضا:
” ولما لم يكن هذا الغرب يمثل إلا مصدر إشعاع للحضارة لا خطرا ماديا حقيقيا ،فإن العقلية الفارسية تعودت أن تنظر إلى هذه الحضارة بعين واحدة إنها تتأثر بها لأنها مضطرة إلى ذلك لنقص في مستواها الحضاري، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها على القوميات العديدة التي تحيط بها.
فلقد اعتنق الفرس الإسلام كسائر شعوب المشرق، لكنهم حاربوه من داخله وتعلموا الآداب العربية لكن حاربوها بما تعلموه منها وكتبوا بالحرف العربية لكنهم شنوا حرباً على اللغة العربية نفسها ” .
استدراك علّه مناسب الذكرِ وهو أن سياقات التعميم هذه تحتاج حصر كقول الأغلب أو البعض؛ لأن من الفُرْس من حسن إسلامه وخدم العربية. وهذا ميزان عدل ولا نبخس الناس أشيائهم.

ونختم
أقوال المفكر العراقي عماد عبدالسلام بالتالي:” ومع أن العرب لم يكونوا عدوانيين تجاه الفرس أو غيرهم وإنما هداة ورسل دين مساواة جديد، فإن هذه الحقيقة لم تكن تنفذ إلى اللاوعي الفارسي حيث تكمن عقدة الخوف والكره من كل ما هو عربي.
فمن الثابت تاريخياً أن دهاقنة الفرس تملقوا العرب بعد زوال سلطانهم السياسي توسلا إلى الإبقاء على مركزهم الاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب غير الفارسية، حتى إذا ما ضعف كيان العرب السياسي وكان للفرس نصيبهم البارز في هذا الضعف، عادوا إلى ممارسة دورهم السابق في إحياء التقاليد السياسية القديمة بإنشاء الدولة التي توظف فيها عقدة الكره والخوف لصالح هيمنة الفرس عليها “.

وخلاصة القول
إن الصفات النفسية للفرس لها دور أساسي بأنهم لم يتمكنوا بديمومة التاثير والمنافسة الحضارية، وأن نطحوا مرة أو مرتين لا يعطيهم ناموس التغيير الذي يمتد باستعادة امجاد قَبَرها التاريخ، إلا ما تبقى من أثارها وهذا لا يستثني أمة من الأمم.

ويبقى من الفرس أفراد وجماعات ارتحلوا من ذميم الصفات، ووافقوا جذوة الفطرة الإنسانية السليمة، فخالطوا وتثاقفوا وأضافوا في التأثير الحضاري العربي الإسلامي عبر الأزمان وهذا له تدوين وتوارث معتبر ومعروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *