كوِّن .. وثِّق .. رسْمِل: سرّ الرأسمالية المفقود في العالم الفقير

الرأسمالية ليست مجرد نظامٍ مالي ولا لعبة أرقامٍ في البورصات، بل هي فلسفة حياةٍ اقتصاديةٍ عميقة، جوهرها أن يتحوّل الأصل إلى طاقةٍ حيّةٍ منتجة. إنها القدرة على تحويل ما نملكه – فكرة، أرضًا، علمًا، علامة، سمعة، وقتًا – إلى قيمةٍ مستدامةٍ تُثمر مالًا وأثرًا. هذا هو السر الذي كشفه المفكر البيروفي هرناندو دي سوتو في كتابه سرّ الرأسمالية، حين تساءل: لماذا نجحت الرأسمالية في الغرب وفشلت في بقية العالم؟ فأجاب: لأن الغرب فهم المعادلة الثلاثية للحياة الاقتصادية — كوِّن، وثِّق، رسْمِل — بينما تجاهلتها الأمم الفقيرة، فعاشت في فقرٍ إداريٍ وفكريٍ قبل أن يكون ماليًا.

كوِّن، لأن كل ثروةٍ تبدأ بتكوين أصلٍ منتج، في العالم المتقدم، لا يُقاس الإنسان بما يملك من مال، بل بما يُنتج من قيمة. المدرسة تُدرّب الأطفال على خلق المشاريع الصغيرة، والجامعة تُخرّج المبدعين لا الموظفين، والمجتمع يحتفي بالمبادرة لا بالانتظار. هناك يتعلم الناس كيف يصنعون رأس المال قبل أن يطلبوا رأس المال. في تلك البيئات، التكوين ليس عملًا اقتصاديًا فحسب، بل وعيًا حضاريًا يُترجم الفكرة إلى مشروع، والمشروع إلى مؤسسة، والمؤسسة إلى اقتصادٍ وطني.

أما في المجتمعات الفقيرة، فالمشكلة تبدأ من الفكرة. الناس يدرسون ليحصلوا على وظيفة، لا ليخلقوا عملاً. يتخرج الآلاف كل عام بعقولٍ مليئةٍ بالمعلومات لكن فارغةٍ من المشاريع. النتيجة: وفرةٌ في المؤهلات وندرةٌ في الإنتاج. فحين يغيب التكوين يغيب النمو، لأن رأس المال لا يُولد من الحفظ، بل من الخلق.

التكوين هو الخطوة الأولى في تحويل الطاقة الإنسانية إلى موردٍ اقتصاديٍّ فعلي. بدونها، يبقى الإنسان تابعًا للفرص بدل أن يكون صانعها، ويظل الاقتصاد قائمًا على الاستيراد لا الابتكار.

وثِّق، لأن الأصل بلا توثيقٍ لا قيمة له في نظام السوق، يمكن أن تملك بيتًا أو أرضًا أو فكرة، لكن ما لم تكن موثقةً قانونيًا، فهي – كما يقول دي سوتو-  رأس مال ميت.

العالم الغربي ازدهر حين أنشأ نظامًا قانونيًا صارمًا لحماية الملكيات. كل أرضٍ، وكل منزل، وكل اختراع، وكل علامةٍ تجارية موثقة ومسجلة، وهذا التوثيق هو ما يجعلها قابلةً للرهن أو البيع أو التمويل أو الاستثمار. بينما في العالم الفقير، الملايين يملكون الأصول ولا يملكون الاعتراف بها. فالمنازل مبنية على أراضٍ بلا سندات، والمشاريع تعمل بلا تراخيص، والأفكار تُسرق لأن أصحابها لم يسجلوها، والعلاقات المهنية لا يُعترف بها لغياب نظامٍ يحميها،وهكذا تُدفن الثروة تحت الفوضى القانونية.

الفقراء ليسوا بلا أصول، بل بلا أوراقٍ تثبتها. يملكون ما لا يُعترف به، ويمتلكون ما لا يمكنهم استخدامه. إنهم أغنياء خارج النظام الرسمي، وفقراء داخله. التوثيق هو ما يُحوّل الملكية من مجرد واقعٍ شخصي إلى أصلٍ قابلٍ للتداول في الاقتصاد. إنه صكّ الحياة للأصول، وبدونه لا ثقة ولا تمويل ولا نمو. لذلك فشل كثيرٌ من الدول النامية رغم وفرة مواردها: لأنها لم تبنِ مؤسساتٍ توثق وتشرعن ما يملكه مواطنوها، فظلّت ثرواتهم حبيسة الظلّ.

رسْمِل، لأن الأصل – مهما كان عظيمًا-  يظل ساكنًا ما لم يُشغَّل.الرسمَلة ليست بيع الأصل، بل تشغيله بطريقةٍ تولّد منه تدفقًا ماليًا أو إنتاجيًا أو معرفيًا. في العالم المتقدم، تُحوَّل الأفكار إلى شركات، والشركات إلى أسهم، والأسهم إلى استثماراتٍ جديدة. الدورة لا تتوقف. بينما في كثير من الدول الفقيرة، الأصول ساكنة: منازل لا تُستثمر، أراضٍ لا تُزرع، شهادات لا تُستخدم، أفكار لا تُموَّل.

العلم يُرسمل حين يتحول إلى وظيفة أو خدمة أو محتوى أو منتج،والأرض تُرسمل حين تُستثمر أو تُؤجّر أو تُطوَّر،والفكرة تُرسمل حين تجد طريقها إلى السوق،والسمعة تُرسمل حين تتحول إلى ثقةٍ تجذب عملاءً وشركاء.

الرسملة هي فنّ تحويل الموجود إلى مورد، والمورد إلى عائد، والعائد إلى أثر، لكن الاقتصادات الفقيرة لا تعرف كيف ترسمل أصولها.

تظن أن التنمية تأتي بالتمويل الخارجي لا بتشغيل الموارد الداخلية. تلهث خلف القروض والمعونات بدل أن تبني دورة إنتاجٍ ذاتية. وهذا هو جوهر الفشل الاقتصادي: غياب الدورة الرأسمالية الكاملة. الدول الفقيرة تُنتج دون توثيق، وتوثّق دون تشغيل، وتشغّل دون ابتكار، فتظل عالقةً في المنتصف — لا هي سوقٌ حرة ولا هي دولة إنتاج.

إن فلسفة “كوِّن .. وثّق .. رسمل” لا تتعلق بالأعمال فحسب، بل بالحياة نفسها. فالإنسان الذي يتعلم ثم لا يوثّق علمه بالشهادة، أو يوثّقه ثم لا يستثمره في وظيفةٍ أو مشروع، يعيش دائرةً من “رأس المال الميت” الفكري. والعالِم الذي لا يطبّق علمه، والمبدع الذي لا يحمي فكرته، والمجتمع الذي لا يحوّل ثقافته إلى منتجٍ أو خدمةٍ أو اقتصادٍ، كلهم يملكون ولا يستثمرون ،إن جوهر الفقر ليس في الجيوب، بل في تعطّل دورة الرأسمالية الثلاثية:أن نكوّن ولا نوثّق، أو نوثّق ولا نرسمل، أو نرسمل ما لم نكوّنه أصلًا.

حين تفهم الأمم هذه المعادلة البسيطة، يتحول كل شيءٍ إلى أصلٍ منتج. العلم يصبح صناعة، والفكرة تتحول إلى شركة، والتراث يُصبح اقتصادًا، والعلاقات تتحول إلى سوقٍ من الثقة. الدول الغنية لم تُخلق أغنى، لكنها عرفت كيف تُحوّل المعرفة إلى مال، والمال إلى معرفةٍ جديدة، فدارت عجلة الازدهار بلا توقف. أما الأمم التي بقيت تنتظر من الخارج تمويلها، فهي في الحقيقة تبحث عن المال بينما تملك داخليًا ما هو أغلى: رؤوس أموالٍ ميتة تنتظر من يُحييها.

سرّ الرأسمالية إذًا ليس في الأسواق ولا في رؤوس الأموال، بل في العقل الذي يُحوّل الأصل إلى طاقةٍ حيّة.

أن تُكوّن لتوجد، وتُوثّق لتحيا، وتُرسمل لتستمر. ومن جمع هذه الثلاثية امتلك مفاتيح النهضة، لأن كل ازدهارٍ يبدأ بتكوين الفكرة، وحمايتها بالثقة، وتشغيلها بالذكاء.

فمن كوّن ولم يوثّق ضاع، ومن وثّق ولم يرسمل جَمُد، ومن رسمل دون تكوينٍ أصيلٍ انهار،أما من جمعها، فقد امتلك سرّ الرأسمالية، وسرّ الحياة نفسها.

هذه الثلاثية – كوِّن، وثِّق، رسْمِل – ليست نظرية اقتصادية فحسب، بل نظام تفكير وحياة يمكن أن يُحدث تحوّلًا جذريًا في سلوك الأفراد والمؤسسات معًا.

على مستوى الفرد، تبدأ رحلة التمكين من تكوين الأصل الشخصي: علمٌ يُتقنه، مهارةٌ يُجيدها، فكرةٌ يُبدعها، أو شبكة علاقاتٍ يبنيها. فكل ما يستطيع الإنسان إتقانه يمكن أن يكون أصلًا رأسماليًا إنسانيًا. بعد ذلك يأتي التوثيق، أي تحويل هذا الأصل إلى هويةٍ معترفٍ بها: شهادة، رخصة، براءة اختراع، حساب مهني موثوق، أو سجلٍّ رقميٍّ يضمن حقوقه. ثم تأتي مرحلة الرسملة، وهي أن يوظِّف ما كوّنه ووثَّقه في توليد العائد: وظيفة تُبرز مهارته، أو مشروعٍ يبيع خبرته، أو منصةٍ ينشر من خلالها معرفته. فالإنسان الذي يفكر بهذه الفلسفة لا يعيش عشوائيًا، بل يدير ذاته كشركةٍ ذكيةٍ صغيرة تمتلك أصولًا، وتديرها، وتُنميها، وتُعيد استثمارها في المستقبل.

وعلى مستوى المؤسسة، التكوين يعني بناء رأس المال الفكري والتنظيمي: تطوير المنتجات، المعرفة، الأنظمة، والعلاقات. التوثيق هو الحوكمة المؤسسية التي تحفظ الحقوق وتضمن الشفافية وتحوِّل التجارب إلى أصولٍ قانونيةٍ وإجرائية. أما الرسملة، فهي القدرة على تحويل هذه الأصول إلى عائدٍ مستدام: عبر التشغيل الذكي، التوسع، الشراكات، أو التحول الرقمي. فالشركة التي لا توثِّق إجراءاتها، ولا تحمي علامتها، ولا ترسمل أفكار موظفيها، ستفقد تدريجيًا رأس مالها الحقيقي حتى وإن كان رصيدها المالي مرتفعًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات