من ثقافة المشاريع إلى مناهج التنمية: تفكيك الفجوة وتأسيس المسار – رؤية السعودية 2030 نموذجًا

ليست كل لبنة تُوضع على الأرض تنمية، وليست كل ميزانية تُصرف على بناء أو مبادرة أو حملة شهادة ميلاد لتقدم حقيقي. كثيرًا ما يُظن أن المشروع هو التنمية، وأن لوحة افتتاح أو تصريحًا إعلاميًا كفيل بأن يُسجل في دفاتر المجد الوطني، لكن الحقيقة أعمق من ذلك، وأكثر مراوغة من أن تُختزل في مشهدٍ أو صورة. فالتنمية لا تُدار بالمشاريع، بل بالعقول والمنهجيات. لا تُبنى بالتصفيق بل بالبوصلة، ولا تتجذر بالميزانيات وحدها بل بالخريطة، بالرؤية، بالنية الصادقة التي تُحسن خدمة المستقبل لا تمجيد الحاضر.

في عمق هذا الفارق تقع أكبر فجوة عقلية تواجه الدول والمنظمات والمبادرات، الفجوة بين المشروع كحدث محدود الأثر، وبين التنمية كسيرورة مستمرة. بين ما يُنجز ظاهرًا وما يُبنى جوهريًا، بين ما يُرى وما يُثمر، بين تكديس المخرجات وندرة الأثر الحقيقي. المشروع بلا بوصلة هو جسد بلا روح، تحركه اليد التنفيذية لكنه لا يعرف إلى أين يسير. يُعجب الناس بمظهره لكنه ما يلبث أن يتهاوى إن لم يكن مسنودًا بمنهجية، مشدودًا إلى غاية، مربوطًا بمؤشرات تدله كل حين هل لا يزال على الطريق أم ضلّ الطريق.

الدول التي نجحت لم تفعل ذلك لأنها كثّفت من المشاريع، بل لأنها كثّفت من التفكير. ضبطت الأولويات، نظّمت الأدوات، ووضعت تحت كل مشروع سؤالًا صارمًا: لماذا؟ ولمن؟ وإلى أين؟ لم تكتفِ بالبناء وإنما أعادت بناء الفِكر نفسه، وأدركت أن ما يُزرع بلا سياق يُقطف بلا طعم. وأن المشروع المنفصل عن الرؤية، مهما بدا جذابًا، هو ورقة خريف بلا شجرة، تذروها الرياح فور انطفاء الضجيج.

وهنا تبرز رؤية السعودية 2030 كنموذج على التحول من منطق المشروع إلى منطق المسار. فهي لم تكن مجرد حزمة مشاريع عملاقة، بل خريطة متكاملة لبناء الدولة الحديثة من الداخل، تتكئ على بوصلة واضحة، وتسير نحو محطة وصول محددة، وتستخدم أدوات مرنة، وتُراجع المسار باستمرار. رؤية 2030 أعادت ترتيب العلاقة بين المشاريع والتنمية، فجعلت المشروع في خدمة التحول لا غايته، وجعلت المواطن شريكًا لا متلقيًا، والقياس أداة تصحيح لا رقابة فقط. لم تكن تنمية مُنتجة في لحظة انفعال، بل مخططًا استراتيجيًا متسلسلًا، يقبل النقد، ويحضن التحسين، ويقاوم الاستسهال.

إن خطورة ثقافة المشاريع أنها تُسكر المنظومة بنشوة الإنجاز اللحظي، تُغري المسؤول بشعور الفاعلية السريعة، وتوهم المجتمع أن التقدم يُشترى بالبناء لا يُصاغ بالفكر. المشروع بلا خطة استراتيجية يشبه الموجة التي تُحدث ضجيجًا ثم تختفي، بينما المنهج كالنهر، يمضي بصمت لكنه يصنع وديانًا من الخصب والامتداد. لا يُقاس نجاح الدولة بعدد المشاريع التي افتتحت، بل بعدد التحولات التي رافقتها، وعدد العقول التي تغيّرت، وعدد المنظومات التي تم تحسينها لا ترقيعها.

لكن الفشل في المشروع لا يُقاس بالمظهر بل بالسياق، فالمشروع حين يفشل ضمن رؤية منهجية يُعد جزءًا من التجريب المشروع، ومكسبًا معرفيًا يُضاف إلى رصيد التعلم الوطني، لأنه خضع لفرضيات، وقُيّم بنتائج، وتم تفكيكه بعقل، ثم أعيد البناء على ضوء ما كشفه من مواطن خلل. أما حين يفشل المشروع خارج الإطار المنهجي، فإنه لا يُخلف وراءه إلا الرماد، ولا يورث إلا الإحباط، لأنه لم يكن جزءًا من خريطة بل نزوة قرار، ولم يُقيّم بناءً على غاية عليا بل على شعور لحظي، فيتكرر الفشل وتتكرر الكلفة دون وعي أو مراجعة. إن الفشل المنهجي هو أحد أشكال النضج، أما الفشل العبثي فهو أحد أوجه التخلف، والفرق بينهما كالفرق بين سقوط طائرة أثناء اختبارها، وبين سقوطها في عرض السماء بلا خطة ولا وجهة

حين نفكر بالتنمية يجب أن نكف عن سؤال: كم نفذنا من المشاريع؟ ونسأل بدلًا من ذلك: ما الذي تغير في وعي الإنسان؟ ما الذي تم تأصيله في الثقافة المؤسسية؟ ما الذي بُني ليستمر بعد تغيّر الإدارات؟ ما الذي غرسناه لنقطفه نحن، أو يقطفه أبناؤنا من بعدنا؟ التنمية ليست حدثًا نحتفل به بل مسارًا نحرسه، ليست سلعة نعرضها بل رؤية نعيشها، ليست ميزانية تُنفق بل عقلية تُبنى.

المنهجية التنموية هي عقل الدولة، وقلب المؤسسة، وضمير القائد الحقيقي. إنها التي تميز بين من يُسير الناس بالعواطف، ومن يُدير الوطن بالبصيرة. بين من يُنجز ليُقال أنجز، ومن يُنجز ليبني معنى. ومن لم يتقن التحسين المستمر، لم يتقن البناء أصلًا. التنمية التي لا تقبل النقد لا تنمو، والمشروع الذي لا يُراجع لا يُثمر.

إن الانتقال من ثقافة المشروع إلى ثقافة المنهج ليس تحسينًا إداريًا فقط، بل هو ارتقاء حضاري، انتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج، من الإنفاق إلى التمكين، من الاستعراض إلى التأثير، من الإنجاز إلى الأثر، ومن التنفيذ إلى المعنى. وهنا فقط تُقاس عظمة الدول لا بضخامة مشاريعها، بل بعمق رؤاها، واتساع أثرها، وحكمة منهجها.

فإما أن نُدير التنمية بمنهج، كما تفعل رؤية 2030، أو نظل نديرها كحفلات موسمية تُطوى بانتهاء المناسبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات