على ضفاف الفقد
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
تذوقتُ الفقد لأول مرة وأنا في عمر صغير جداً، عندما سمعت آحداهن تقول : توفى فلان، كانت صدى الخبر غريب على مسامعي كطفلة، استوطنتني الكثير من التساؤلات: هل الموت سيغيب وجه المتوفى للأبد؟ لم أكن أعي أبعاده الحقيقية، فخضت التجربة بلا وعي كامل، لم أفهم وقتها معنى الفقد، كبرت وأنا أتساءل: كيف يعيش المعزّون وأهل الفقيد؟ كيف تسكن مرارة الفقد حناجرهم ولا تغادر؟ كيف تتمكن منهم الصدمة ويحاولون جاهدين ابتلاعها والتعايش معها؟
كنتُ كثيرة التأمل منذ صغري، يستهويني التفكر في كل ما حولي، لم يمر حدث في حياتي مرور الكرام دون أن يستوطنني أثره، ومع ذلك ظل معنى الفقد بالنسبة لي غامضاً ومصنفاً ضمن التجارب التي لابد أن تُعاش حتى تدركها وتستوعب أبعادها.
كيف يشتاق الفاقدون؟ وماذا يفعلون حين يهجم عليهم الشوق عنوة ويجتاح صدورهم الحنين؟ ماهو حجم فكرة موت الأشخاص والأقرباء؟ كيف للعقل أن يستوعب هذا النوع من الصدمات؟ كيف ستمر الصدمة ؟ وكم ستأخذ من الوقت؟ الكثير من الأسئلة التي بقت بلا أجوبة، مضت السنوات وجاء الاختبار الأكبر قبل عام، حين فقدت إنسانة عزيزة على قلبي: “خالتي الكبرى”.
ضحكاتها، شخصيتها، انفعالاتها، وأحاديثها… كانت مزيجاً محبباً لروحي، حاضرة بوضوح في مشاهد طفولتي وصباي، كان شعور الحزن ثقيلاً خانقاً، أصعب من أن يعاش وأثقل من أن يمر، وبعد عام تكرر المشهد ورحلت جدتي.
رحل جسدها، لكن ذكراها بقيت حية، تعيش في مخيلتي، وتسكن في قلب أفكاري اليومية، تقف كعادتها تبتسم بحضور طاغ وقوي.
غاب عني وجهاهما المحببان لقلبي، وغابت ابتسامتهما الحنونة، وبقت أماكنهم حاضرة في شواهد أيامي بوضوح لايخفت، عندها أدركت أن الفقد هو التجربة التي تظل تعيد صياغة أرواحنا كل يوم، تعلمنا أن الأحبة يرحلون بأجسادهم ولكنهم يمضون نحو ذاكرتنا الأبدية ليسكنوا أعماقنا ماحيينا، وبأننا لا نكبر بالعمر فقط، بل ننضج بالتجارب، حياتنا كلها مضمار من التجارب: بعضها يحملنا نحو أجنحة السعادة، وبعضها الآخر يؤلمنا لكنه يعيد تشكيلنا بشكل أو بآخر.