الجغرافيا التي تعيد ترتيبنا
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
كم بقى على موعد رحلتنا؟ طائرتنا عند أي بوابة؟ إذا وصلنا نستأجر سيارة من المطار ولا نطلب تاكسي؟ كم درجة الحرارة هناك؟
نعم… هذا هو حال الكثيرين في هذا الوقت من السنة، نحكم ربط الأحزمة ونتهيأ للانطلاق نحو وجهات متعددة، منها القريب الذي نألفه، ومنها البعيد ما لم تطأه أقدامنا من قبل.
وجهات شتوية باردة تنعش الأرواح، أو مدن استوائية تبعث شمسها الدفء في أعماقنا.
لكننا لا نسافر فقط لنصل إلى مكان جديد، بل لنصل إلى أنفسنا، إلى نسختنا الأصلية التي تاهت تحت وطأة المهام والمسؤوليات، نُزيل الأعباء، نتجرد من كل ما يثقلنا، ونعلّق مؤقتاً أولوياتنا كلها.
نُطفئ ساعة المهام التي لا تكف عن النقر في رؤوسنا، ونتوقف عن اللهاث خلف الروتين وعجلته التي تدور بلا توقف.
يقول الإنجليز: ” تروق لي نفسي في باريس” ولا يقولون “أحب باريس”، وفي هذا التعبير رمزية جميلة، نحن لا نحب الأماكن بقدر ما نحب أنفسنا حين نكون فيها، لأن المدن قادرة على إعادة تشكيلنا، فلكل مدينة رائحة، إيقاع، لون، نتفاعل مع تفاصيله فنغدو أكثر خفة، أصفى ذهناً، وأفضل مزاجاً.
ننظر إلى الأشياء بعدسة جديدة، نحاول أن نلتقط ونجمع كل تفصيلة، كل زاوية، كل نافذة، ومقهى وشارع، نحتفظ بها نخزنها في ذاكرتنا البصرية، ثم نمضي إلى متحف المدينة، ونلتقط صورة أمام لوحة لطالما رأيناها خلف الشاشات، نقف أمام البحر، نصغي لتهويدات أمواجه، نسعد بتجربة المطاعم المحلية ونتذوق توابل لم نألفها من قبل، كأن لكل مدينة نكهة لا تشبه سواها، نسارع لحجز تذكرة لحضور عرض فني أو أوبرالي، نراقب كيف تعكس المدينة فنها وثقافتها على خشبة المسرح.
في كل تفصيله صغيرة تجربة، تعيد ترتيب ذائقتنا، تلون خرائطنا الداخلية، وتُصلح ما أفسده التكرار والاعتياد.
فالسفر ليس ترفاً بل استعادة، استعادة لنسختنا النقية، ولنبض كدنا ننساه بين زحمة الحياة.
وحين نعود، لا يعود معنا الوزن الزائد في الحقائب فحسب، بل يعود معنا شيء ثمين: نفس أكثر إشراقاً، وروح أقل تعباً.