السكن قيمة.. يا معالي الوزير

لا أدري، هل فكر وزير الإسكان ماجد الحقيل ملياً في كلمته التي تحدث فيها ارتجالاً في لقائه الشهري عن أزمة الإسكان؟ تلك التي ابتدرها بتوصيف المشكلة بأنها مشكلة «فكر»، هل قدر معاليه سلفاً، وهو يتناول هذه القضية الحساسة والساخنة أنه سيواجه بكل هذا السيل من السخرية الملتبسة بالسخط والامتعاض، وهو يتحدث بشيء من الاسترخاء، عن (السكن الفكري أو الفكر السكني)؛ لتقع في غير الهدف الذي (نشن عليه)؟

أعلم جيداً أن معاليه يدرك أن السكن بالنسبة إلى المحتاجين هو قيمة لا تقبل الجدل ولا حتى (التفاكر) بين مثقفين أو منظرين، بقدر ما تحتاج إلى قرارات إنقاذية حاسمة، وهي أولاً وآخراً قضية الوزير والفريق بمعيته، لذا فهو بالنسبة إليه قيمة موضوعية ومطلب ملح لا يسمح بالتهاون أو الاسترخاء، والاستسلام إلى حالة تفكر وتدبر كما يصفها معاليه (هدوء وحالة استقرار)؛ لأنه ببساطة من قدمه في الماء البارد ليس كمن وطئت النار، حتى غلى منها دماغه، إلا أن معالي الوزير الذي عين ليحل هذه الأزمة المستحكمة منذ أكثر من 30 سنة أحال مشكلة الإسكان برمتها إلى طريقة تفكير المواطن المسكين، الذي يطمح لبيت العمر، المواطن العبثي الذي لا ينظم دخله، المواطن الطموح جداً في بيت مساحته 600 متر، متناسياً أن المواطن الذي يتحدث عنه، متى استطاع وتجاوز كل عراقيل وشروط إقراض المصارف المجحفة، لا يسعه إلا أن يقترض مليون ريال يدفع قبلها للمصرف 30 في المئة مقدماً ليمتلك بيتاً مساحته 200 متر، ويعيش 25 سنة يسدد قرضه المرهق.

لعل معاليه المفكر يتحدث عن بيئة أخرى غير الواقع الذي نعيشه، وكأنه يريد إلقاء الكرة في مرمى المواطن على طريقة (رمتني بدائها وانسلت).

إذنْ، أمام معاليه مهمة أخرى غير توفير سكن للمواطن، تتمثل في إعادة صياغة تفكير الموطن حتى يقتنع بعدها بقضاء الله وقدرة، وأنا أسأل الوزير: عندما قام الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، ومن بعده أبناؤه العظام بمعية رجال مخلصين بحل أزمات هذا البلد؛ كي يأخذ كل مواطن نصيبه الكامل من الأمن والتعليم والصحة والسكن، هل احتاجوا إلى كثير من التخطيط والتفكير في حل كل هذه الأزمات لبلاد شاسعة وظروف بيئة مختلفة، بلد كان يعتريه التفكك وغياب النظم والخطط وقلة الموارد المالية؟ أم أنهم عملوا سريعاً بما يتوافر لديهم من إمكانات حتى تحقق لهم كثير مما أرادوه في بضع سنين؟

كأن الوزير قد ألمح إلى 30 سنة أخرى يتخللها تفكير وتخطيط لتوفير السكن للمواطن، بينما الإحصاءات تؤكد أن المطلوب عاجلاً هو توفير نحو 500 ألف وحدة سكنية للمنتظرين على قائمة انتظار الصندوق العقاري، وهي تكاد تكون نسبة ضئيلة مقارنة بالدول الأخرى، تلك التي ضرب بها معاليه المثل كتركيا وسنغافورة، في حين أن دبي وحدها على صغرها وحداثتها استطاعت توفير هذا العدد لمواطنيها في سنوات قليلة.

أين تكمن مشكلتنا ونحن لا نعاني من شح في الأراضي؟ كما أشار معاليه في حديثه قاصداً المناطق العشوائية المهملة تلك التي كتبتُ عنها مقالة هذه الزاوية في 23 نيسان (أبريل) 2013 بعنوان: (الرياض القديمة) اقترحت فيه إعادة تأهيل هذه المناطق وأن تتولى الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض هذه المهمة من خلال طرحها على شركات استثمارية، أو أن تقوم بتنفيذها ثم طرحها على شركات عقارية تسويقية، وأن تكون قلب العاصمة الحي نابضاً بالحياة من جديد، من خلال هذه المشاريع، إذ تصبح مزاراً للسياح وكسر احتكار الأراضي من تجار العقار بأحياء هذه المناطق من جديد وتوفير السكن للمواطنين، وذكرت أن المناطق التي -للأسف- عبثت فيها عوامل التعرية الزمنية والعمالة الوافدة المكدسة في قلب العاصمة الرياض كالعطايف والخزان والشميسي ومنفوحة والسويلم والديرة ودخنة والمرقب والصالحية والصناعية القديمة حتى الملز الذي كان لا يشبهه سوى الزمالك في القاهرة ذو التاريخ العريق، التي لا تزال متماسكة بقيمتها بينما الملز أصبح في عداد الأحياء التي دخلت قسراً بعد رحيل سكانه منه إلى حيز العشوائية، إذ تتكدس داخلها بالفوضى واستخدام العمالة لها بشكل مقزز غير حضاري.

في السنة نفسها أعلنت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض خطتها المتكاملة لتطوير منطقة وسط مدينة الرياض؛ لتحويل المنطقة إلى مركز تاريخي وإداري واقتصادي وثقافي على المستوى الوطني، من خلال دراسة وتحليل الأوضاع الراهنة للمنطقة ووضع رؤية مستقبلية لتطويرها، وفق برنامج تنفيذ تشارك في تنفيذه مختلف الجهات ذات العلاقة من القطاعين العام والخاص، إضافة إلى الملاّك من المواطنين، ضمن خطتها الشاملة لتطوير مدينة الرياض والتي قطعت فيه مشواراً طيباً، وأنجزت من خلاله عدداً من المشاريع العملاقة والمهمة ذات البعد الإنساني وإن كنا نطمح إلى تأكيد حضور المواطن بشكل مكثف، لتتحقق الغاية منها.
واليوم، أحيل معالي وزير الإسكان، الذي قدح فكره وشخص القضية بأنها فكرية إلى عشوائية أخرى هي أشد وأعتى، أعني عشوائية السطو المتعمد لمساحات شاسعة من أراضي الدولة تقدر بملايين الأمتار.

القضية إذن، يا معالي الوزير، ليست قضية فكرر إلا متى أخذت المعنى الحقيقي لها، وهو أن المواطن يعاني فكرياً ونفسياً من هذه الأزمة الخانقة التي وضعته بين سندان جشع ملاك الأراضي البيضاء وحيرة وزارة الإسكان وترددها في استرداد العقارات المنهوبة وكيفية استصلاح المناطق العشوائية، بينما الوزير يريد أن يأخذ وقته بالتفكير والقضية برمتها هي قضية قيمة وقيم، قيمة يستشعر المواطن حقيقة وجوده على أرض وطنه المبارك، وقيم يدخل فيها مراعاة حق الله فيما استودع المسؤولين عليه من أمانات، وعلى أخصها أقرب ما يرتبط به هو السكن.

نسي الوزير الفاضل، وهو يوصف الدول الأخرى من حولنا أننا نتميز بكثرة الشركات التي تعمل لدينا بمشاريع عملاقة، تستفيد منها الشركات أكثر مما يستفيد منها المواطن، لذلك فمن المهم أن يكون لوزارة الإسكان موقع قدم في كل العقود التي تبرم مع هذه الشركات، تشترك في صياغتها مع وزارة المالية والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، تفرض على كل الشركات الوطنية وغيرها الإسهام بنسبة معينة تؤخذ بما يشبه الضريبة؛ لإعادة تأهيل تلك المناطق العشوائية واستثمار كل المساحات الواقعة في قلب المدن بما يفي بمتطلبات المواطن السكنية، فما يؤخذ منها بنسبة معينة من خلاله يسلم المواطن منزلاً عوضاً عن إعطائه قرضاً يحتار فيه ويورطه، وبهذا يتحقق أكثر من هدف برمية واحدة، منها بناء وحدات ملائمة للمواطن المحتاج، ومنها المحافظة على قيم البناء الهندسية ذات المواصفات البيئية والمناخية التي تعكس العادات والتقاليد المحلية لهذه المناطق الحيوية، ومنها أيضاً العمل على صيانتها بعقود مفروضة طويلة الأجل، ومنها القضاء على عشوائية هذه المناطق التي تركت أوكارا لكل المتخلفين والخارجين عن ربقة النظام، وبها يقضى على كل الموبقات.

محمد المزيني

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات