حطموا الأصنام

ليس من السهل على أمة من الأمم الدخول إلى العالم الحديث هكذا بسهولة، وعلى أخصها الأمة المتلبثة في قيمها المتوارثة التي بلغت حد التقديس من دون قبول تمريرها على أدوات النقد والتقويم، لذلك فإن أدنى مخاضات فكرية باتجاه التحديث ستقابل بالعنف الموجه كرد فعل أولى، ما لم تقابل بما يناسبها من صرامة مدعومة ومدفوعة بمؤسسات ديموقراطية ثابتة، وإلا فإنها ستتجاوز حدود تمثيل نفسها خطابياً إلى ما هو أبلغ

في الردع، باستخدام القوة المباشرة؛ لتظل كل القيم القابلة للتحول والتبدل أصناماً ليس أمام الطامحين للانعتاق من ربقة الكسل والخمول والتخلف سوى تحطيمها أولاً، لتتمكن من فتح ثغرات في العقول المنغلقة تسمح بتسلل نور المعرفة الجديدة إليها، في السعودية التي تشهد اليوم مرحلة جديدة ومختلفة في أنظمتها الإدارية وتحقق أكبر نهضة اقتصادية عالمية لا تزال بعض القوى الرجعية تنافح من أجل البقاء في عروشها المنبرية الموجهة بحزم وصلافة؛ لقطيع المجتمعات القابلة للتنازل عن عقولها، وتسليم إدارتها إلى غيرها بلا مساس؛ إما طلباً للأمن والسلامة؛ أو طمعاً بمغنم دنيوي لا يمكن أن يمرر إلا من خلف العباءات واللحى، أو طمعاً في جنة يعدهم بها سدنة الدين وكهانه وبذلك يتحول الإسلام إلى كهنوتية مفرطة بالتبعية.

هذا الإسلام الذي هدم صنمية العقول قبل الأحجار، وانتصر بالحرية التي منحها الإنسان على ثقافة القطيع حتى وصل إلى أقصى حدود الأرض غرباً وأقصاها شرقاً، بسلاحين نافذين هما العلم والمعرفة، والأخلاق ومظاهر التعامل الحسن في القول والفعل، في الحركة والسكون التي لم نجدها ولن نجدها عند أصحاب الغزوات المشهودة كغزوة كلية اليمامة حينما هجم هؤلاء الظلاميون على المسرح وأحدثوا فيه هرجاً ومرجاً وتحطيماً، وغزوات معرض الكتاب المتكررة كان آخرها تداخلهم البربري المشين واعتراضهم بالعنف على محاضرة الدكتور معجب الزهراني، الذي لم يكن يروق لهم شكلاً وموضوعاً، لذلك جاؤوا متأبطين للرفض يتسنحون أي فكرة تخرج عن سياق وعيهم الخاص، ليكون مبرراً كافياً للخروج عن نص المحاضرة، ونص العقل والجدل بالتي هي أحسن، ونص الأخلاق التي دعى إليها ديننا الحنيف؛ ليثبت بشكل قاطع وحازم النص الوثني بالقوة والإكراه، وهذا أحد الاختبارات التي تنفذ في كثير من المحافل الفكرية؛ لاكتشاف حقيقة وجود هذا التيار ومدى تمكنه وتأثيره وتمثيله لدى الناس، وقد تحقق لهم ذلك في أكثر من مرة.

إن تقريب الناس من فكرة الموت وتخويفهم من الآخرة وتفيؤ المجتمع وتقسيمه بطريقة قسرية وعنيفة يُستخدَم فيها الدين أداةً بحسب الطائفة والعرق والجنس هي من أهم الأدوات المستخدمة لهدم الحياة المتوثبة لديهم، وبها يتم استنهاض الهمم التخريبية لأي فكرة تدفع الناس إلى عالم التحديث، وبها انتهت عقول الشباب إلى مرحلة العدمية القاتلة، وقد عانت الدول التي أخذت دورتها كاملة في سلم التقدم والحضارة من هذه اللوثة العقلية التي يحملها أرباب الأفكار الرجعية والمتحجرة، ففي القرن الثامن عشر، أو ما يسمى «الصحوة الكبرى»، وصل الناس حينها في ولاية نورث هامتون الأميركية إلى حد بعيد من الهوس الديني والمغالاة تضخمت بفعل المواعظ والخطب الصحوية التي كان القسيس جوناثان إدواردز يلقيها بنوع من النشوة العارمة، كان الشباب ينفجرون عقبها مع إحساس عميق بالذنب، فتركوا أعمالهم من أجل خدمة الكتاب المقدس، وهو ما أدى إلى وقوع حوادث مؤلمة لكثير منهم أدخلتهم في مآزق نفسية، منها الاكتئاب، أودت بهم إلى الانتحار، وكأنما يُنادى بهم أن اذبحوا أنفسكم؛ خلاصاً من لوثة الدنيا وقرباناً للرب. أتصور أنهم لو دُعوا إلى معركة مقدسة حتماً سينجرفون خلفها ببهجة عارمة؛ للخلاص من الذنوب التي تلبستهم كالشياطين، ولم تتمكن أميركا وأوروبا من الخلاص من كل هذه الأزمات الصحوية إلا بعدما استطاعت استبدال قيم الموت بقيم الحياة وبعدما آمن الفرد بقدرته على التغيير من خلال كل الهبات الجسدية والعقلية والروحانية التي وهبها الله -سبحانه وتعالى- له، كما لم يحدث كل ذلك بمعزل عن نزع الوصاية الكهنوتية على عقول الناس ووضعهم أمام القوانين على حد سواء، ومنح الإنسان حقوقه كاملة في التعبير، كما لم يتحقق هذا كله إلا من خلال صحوة مضادة تقدس العقل، وتؤمن بالعلم، وتمجد طلب العلم، وتفسح مجالاً للحوار بحرية كاملة من دون وصاية من أحد على أحد.

إن ما يحدث اليوم في عالمنا العربي الذي نحن جزء منه مطابق تماماً لما كان يحدث في أميركا وأوروبا قبل 200 سنة، فلا يزال الأوصياء على عقول العباد يمارسون عاداتهم القمعية المعروفة، ويصادرون حق الإنسان بالتعبير عن آرائه بكل حرية مع أنها لا تبتعد كثيراً عن فحوى الفكر السائد، إلا في طريقة الطرح، فما يعتمده الظلاميون في طرحهم مختلف تماماً عن فحوى الدين وطبيعته الديناميكية، تلك التي عبر عنها أحدهم بأن الإيمان ليس قفزة في الظلام، فالإيمان لا يمكن أن يحدث متى كان حقيقياً إلا من خلال الملاحظة الدقيقة والتفكير الصائب، والصنميون الذين ألهوا مبادئهم ونصبوا أفكارهم معياراً على حقائق الأشياء اصطدموا بمتغيرات العصر، فرأوا السفينة البخارية أنها ممسوسة بالجن، وأن صوت المذياع صوت شيطاني، لذلك لا يسعهم أن ينسبوا كل المتغيرات إلا إلى عالمهم السفلي، وهم اليوم يكررون الفكرة نفسها بعدما أفلتت العلوم التطبيقية من بين أيديهم وأصبحت واقعاً مشهوداً ومؤثراً في حياة الناس، فهم لا يزالون ينظرون إلى بعض الدراسات كالأنثروبولوجيا والميثولوجيا التي تعتمد على الشواهد الحية من آثار ومقتنيات قديمة وغيرها على أنها وساوس شيطانية يجب تدميرها، بسبب إصرارهم على نسبة كل شيء من متغيرات وثوابت إلى مصدر واحد، معطلين عمل العقل الذي هو منحة الله الأسمى للإنسان، وبها طالبه في أن يتدبر في ملكوته وفي خلقه، ولن يحدث هذا إلا بتحطيم الأصنام القابعة في الرؤوس.

محمد المزيني

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *