«أنياب» الديبلوماسية السعودية!

كشّرت السعودية أمس عن أنيابها الديبلوماسية، محذرة الحكومة السويدية من مغبة الاستفزاز بإطلاق تصريحات مسيئة ضد المملكة، ونظامها القضائي، وأسسها الاجتماعية، مشددة على أن الاستمرار في ذلك سيضطرها إلى إجراء مراجعة للعلاقات معها، وذلك بعد مرور أسبوع على استدعاء السفير السعودي من استوكهولم، وهو ما يعني أن بعد استدعاء السفير ليس إلاَّ الذهاب إلى إجراءات أكثر تشدداً في العلاقات الثنائية.

وقد لفتني أخيراً تقرير لوكالة «اسوشيتدبرس»، أشار إلى مخاوف لدى الائتلاف الحاكم في النمسا من إقدام الرياض على سحب مقر «أوبك» من فيينا، بعد إثارة مزاعم ولي عنق للمنطق من بعض المسؤولين النمساويين حول وجود مركز الملك عبدالله للحوار بين الأديان والثقافات في فيينا، إذ رأى بعضهم أن مهمته تشجيع الحوار، وليس التنديد بالسعودية ومهاجمتها على حساب مركز للحوار الحضاري أقيم على أراضيها بموافقتها، وتولت المنصب الثاني في إدارته وزيرة العدل السابقة في حكومتها.

كانت النمسا متحمِّسة حين قالت السعودية إنها مستعدة لتمويل مركز للتفاهم الديني والثقافي، وتم اختيار فيينا مقراً له، بيد أنه بعد مرور عامين على إطلاقه، أخذ اندفاع السعودية لتشجيع عالم أكثر انفتاحاً ينهار مع استمرار الاتهامات ضدها بشكل لا يشجع على ذلك، إذ استقالت نائبة رئيس المركز، وهي وزيرة سابقة للعدل في النمسا، بعد حملة ضدها، لإدلائها بتصريحات حُملت على أنها تقليل من شأن الانتقادات لأحكام الإعدام في السعودية. كما استمر التنديد من مستشار النمسا الذي قال إن بلاده «لا تحتمل» رفض المركز انتقاد الانتهاكات في السعودية، وكأن مهمة المركز الذي تنفق عليه السعودية من أموالها التفرغ لمهاجمتها وإصدار بيانات تنديد ضدها، فهل يعقل ذلك؟

المتخصص في شؤون الإسلام رويديغر لولكر يرى «أن المركز لم يبق طويلاً بعد لتسفر نتائج عن أهدافه». ونصح المنتقدين بأن يكونوا صبورين. ويجمع مؤيدو المركز – وهم محقون في ذلك – على أن مهمته ليست انتقاد حالات فردية للانتهاكات الحقوقية، بل تسهيل الحوار بين الأديان. ويشيرون إلى أن النمسا والراعيَيْن الآخريْن، وهما إسبانيا والفاتيكان، بصفتهما مراقبيْن، وقعت اتفاق إنشاء المركز، وهي تعرف – تمام المعرفة – أن أحكام الجلد والقصاص في السعودية نابعة من الشريعة الإسلامية، ولا شك في أن محاولات إدانة السجل الحقوقي للسعودية من المركز حيلة من الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه المستشار النمساوي فيرنر فايمان لكسب تأييد ناخبين، من خلال استغلال الاستنكار الشعبي للأحكام القضائية في المملكة. ولم يسأل فايمان نفسه: هل تسمح بلاده بانتقاد أحكام قضاتها خارج القنوات المعروفة للتقاضي؟ بل هل يسمح للصحف بأن تتناول بالتعليق قضايا ينظرها القضاء؟ ولم يسأل نفسه: لماذا ينطبق ذلك على النمسا والسويد وغيرهما، ولا ينطبق على السعودية؟

وتحت إلحاح المستشار فايمان، تبنت وزارة الخارجية النمساوية تقريراً يطالب بسحب المركز من فيينا ما لم ينتقد «انتهاكات حقوق الإنسان التي تتم تحت دثار ديني»!

لم تجبر السعودية النمسا على استضافة مركز الملك عبدالله، وإنما اتخذت قرارها بنفسها، وهي تعرف المملكة جيداً، فلماذا هذه الحملة الآن؟ ولكن من يسمع صوت العقل في فيينا إذا رسخ في عقله الاعتقاد الخاطئ بأن سب السعودية وانتقادها وترديد المزاعم بحقها تجلب الناخبين، وتزيد حظوظ فايمان وحلفائه بالفوز في الانتخابات.

الكاردينال الكاثوليكي جان لوي توران دعا المركز إلى العمل من أجل بسط الحرية الدينية في كل مكان، بما في ذلك «البلدان التي لا توجد فيها ضمانات لتلك الحرية». بيد أن حزب الخضر ومنظمات إسلامية وجماعات حقوقية عارضت المركز منذ البداية، وأعرب بعضها عن مخاوف من أن يكون المركز واجهة لمحاولات سعودية لنشر الإسلام «الوهابي» في أوروبا. وتلك هي «الحيلة» الأخرى لضرب المملكة. فإذا شعر الساسة بالحياد من تشغيل «أسطوانة» حقوق الإنسان ضد المملكة، لأي مصالح يخافون عليها، أوعزوا لجهات بالتحذير من «الإسلام السعودي»، وكأن المملكة لها دين غير الدين الإسلامي الذي تستقيه من منبعيه: الكتاب والسنة.

وكانت نائبة رئيس المركز وزيرة العدل النمساوية السابقة كلوديا بانديون – أورتيز، التي استقالت نهاية العام الماضي، وصفت المزاعم بشيوع عمليات «قطع الرؤوس» في السعودية بأنها «كلام فارغ»، فانقلب عليها أعداء السعودية، وأوسعوها انتقادات حتى استقالت. كانوا يودون لو زعمت مثلهم بأن السعودية غابة رؤوس متطايرة، علماً أن أحكام الإعدام تطبق في دول عدة، من بينها ولايات أميركية.

ولا يعدم المستشار فايمان منتقدين حتى داخل الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزبه، إذ إن حزب الشعب الوسطي يقول إن المستشار يلحق الأذى بالنمسا من جراء مطالبه، وإن التقرير الحكومي بشأن المركز وثيقة مفعمة بالتناقضات. وأوضح حزب الشعب المشارك في الحكومة الائتلافية النمساوية أن السعوديين حذروا سلفاً من أن فرض مزيد من الضغوط ستنجم عنه تبعات ديبلوماسية واقتصادية خطرة، قد تشمل سحب مقر منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) الموجود في فيينا منذ 50 عاماً.

الأكيد أنها معركة إعلامية سترد عليها السعودية، ليس لأنها «غاوية معارك»، ولكن لأن غايتها من قيام المركز نبيلة وإنسانية وأحد واجبات الدين الإسلامي الذي يحض على الحوار والمحبة والسلام بين الأمم والشعوب.

وغني عن القول إن السعودية كررت مراراً في الآونة الأخيرة تحذيرات من التدخل في شؤونها، والمساس بسيادتها، وتأكيد استقلال نظامها القضائي من أي تدخل تنفيذي. وكشرت عن أنيابها حين حملت مجلس الجامعة العربية في القاهرة على منع وزيرة خارجية السويد من إلقاء كلمة أمام وزراء الخارجية العرب بسبب إدلائها بتصريحات عدائية استفزازية، واستدعت سفيرها من استوكهولم بسبب تدخلات في شؤونها الداخلية وإجراءات «غير ودية» من جانب الحكومة السويدية. وأمس اتضح أن الرياض ستذهب إلى أبعد من ذلك في حال استمرار السويد في استفزاز مشاعر السعودية والتدخل في شؤونها وفي نظامها القضائي. والمؤسف حقاً، وهو أكثر ما يثير غضب السعودية، أن انتقاد أحكام القضاء السعودي تدخل سافر في شؤون المملكة، وحين ترد السعودية على هذه التصرفات فهي سترد رداً قوياً يتناسب ومكانتها في العالم وثقلها في العالمين العربي والإسلامي. ولو اضطرت السويد السعودية إلى إعادة النظر في العلاقات بينهما، فإن استوكهولم هي الخاسر، إذ إن الميزان التجاري بين البلدين يميل لمصلحة السويد ببلايين الدولارات. كما أن بدائل التكنولوجيا السويدية متوافرة، وبشروط تحترم سيادة الدول وتقاليدها ومعتقداتها.

جميل الذيابي

نقلا عن “الحياة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *