انتهى زمن التوسل والحوار

الحقيقة، وعلى رغم التوجه النقي والأهداف الحميدة، إلا أنني لم أعد أثق بجدوى استمرار ما يسمى بالحوارات الوطنية.

عندما أمر خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – بتأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، قبل أكثر من 10 أعوام، كنا في المملكة بحاجة ماسة إلى مثل تلك اللقاءات، كوننا نواجه وللمرة الأولى في تاريخنا الحديث تبايناً واختلافاً في الرأي، أخذ طابع الحدة والعداء في بعض الأحيان بين طوائف المجتمع السعودي.

بالطبع، لم يكن لهذا الخلاف أن يوجد وبهذا الشكل الغريب، لولا ما تسببت به «الصحوة الإسلامية» من تنافر وتناحر وإقصاء بين أفراد وطبقات المجتمع. نعم فقد ارتوت أدبيات رموز تلك الصحوة، عبر الخطب والكتب والأشرطة والمطويات والملصقات، وعلى مدى عقدين قبل إنشاء المركز، بالكثير من الأقاويل، التي شقت الصف، وفرقت الجمع، وصنّفت الناس إلى ملتزم وعلماني وأشعري وصوفي وشيعي ووهابي ومسلم وكافر وأنسي وجني. وعلى رغم أن الكثير من أولئك الرموز تراجعوا أخيراً عن تلك الدعاوى، لكن من دون أن يتقدموا بأي اعتذار، مع الأسف، إلا أن الشباب الذي صدقهم لا زال يعاني من تلك الويلات وإلى يومنا هذا.

تأسس مركز الحوار، وفي خضم تلك الأجواء الساخنة لتقريب وجهات النظر والالتقاء على طاولة الوطن ومناقشة مصالحه العليا، نعم تحقق الكثير بسبب تلك المؤتمرات في بداياتها، لكن الحوارات وفي الآونة الأخيرة فقدت بريقها.

اليوم يجب أن ندرك بأن الحوار وحده لن يفي بالغرض، ولن يحقق الأهداف بعيدة المدى. إنه يذكرني بمناشدات المرور التي أذكرها منذ خروجي إلى هذه الدنيا، والمتمثلة بالتوسلات للسائقين خلال مناسبات باهتة مثل أسبوع المرور. جميعنا بالطبع يدرك أن تلك التوسلات ومهما تزخرفت بالألوان والإخراج والعبارات الجديدة، لا قيمة لها في غياب تغريم المخالف بعد توقيفه، وهو الذي لم يحدث بعد.

لذلك، فالحوار المجدي اليوم – وبرأيي المتواضع – يجب أن يقتصر على دعوة بعض القانونيين وخبراء الجريمة ومستشارون من الخارج، ويكون هدفهم الاجتماع داخل هذا المركز الأنيق في هندسته ومحتوياته المكتبية، والاتفاق على صياغة المسودات المعتبرة لقوانين تجريم الآخر، مقترنة بوضع آليات القبض والادعاء والتحاكم والعقوبات. كما وأتمنى – في هذه العجالة – أن يتجنب صانعوا القرار عرض مثل هذه المسودات على مجلس الشورى، لأن هذا المجلس أصبح أخيراً لا هم له إلا تعطيل المقترحات البناءة، وكأنه يعيش في عالم آخر غير الذي نعيشه.

أقول ذلك، لأن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني وبعد 10 أعوام على إنشائه، قد يعتبر الحاضنة المفضلة لمناقشة مواد مثل هذه القوانين، بعد أن شارك في منتدياته الماضية عدد كبير من النخب المثقفة من جميع الطوائف والمناطق في المملكة. ولا مانع أيضاً من الاستعانة بخبراء من الخارج ممن لهم باع وتجارب في وضع قوانين الكراهية والإقصاء.

نتحدث عن ذلك ودماء الأبرياء في الأحساء والقصيم وحائل لم تجف بعد، في أعقاب تلك الجريمة النكراء، التي أقدم عليها صناع الكراهية والفتنة. نتحدث عن الحاجة إلى دولة القانون، لأن الأزمات تشكل فرصاً هائلة للتغيير نحو الأفضل، ومن لا يستغلها يفقد الكثير مستقبلاً. نعم فتأسيس دولة القانون اليوم سيأتي مصاحباً لهذا الزخم الشعبي العظيم بجميع طوائفه، والذي عبّر عن استنكاره لما حدث قبل أسبوعين، ولذا فتشريعه وتطبيقه لن يجد من الشعب إلا التصفيق والترحاب.

كمواطن سعودي، لا يمكن أن أصف لكم مشاعري وهي مشاعركم أيضاً، عندما شاهدت مراسيم العزاء في الأحساء وصفوف الآلاف خلف التشييع، أو زيارة ذوي ضحايا الحسينية إلى بريدة وحائل لمواساة ذوي رجال الأمن البواسل، الذين يضحون بأرواحهم في كل وقت، دفاعاً عن أمن الوطن والمواطن والمقيم. الإرهاب كالعادة أعمى البصر والبصيرة، وعملياته هذه كما سابقاتها، تخلق المزيد من التلاحم الوطني، وتدفع المسؤول الذكي إلى تطوير ذاته وقدراته.

من كان منا يتصور قبل 15 عاماً أن تصل قوات الأمن السعودي – سواء الميدانية أم الاستخباراتية – إلى هذا المستوى المتقدم من المهنية والدقة والبراعة في مطاردة هؤلاء المجرمين المدربين على حمل السلاح والقتال وتفتك بهم، بل وتفشل الكثير من عملياتهم استباقاً؟ إنها الهمة والعزيمة وقبول التحدي، وقبل كل شيء الاستفادة من الثغرات.

نجح الأمن بكل براعة واستحقاق وسيتقدم أكثر. لقد نجح نجاحاً أجبر رؤساء دول عظمى سبقتنا في التدريب والتعامل مع الجريمة على الإشادة به. نحن هنا ننادي ونطالب بنجاح الدولة ككل عبر تطوير أنظمتها التي نتوقع بحول الله أن تضع حداً منيعاً للطائفية، وتغلق كل أبواب النعت والإقصاء ومحاولات شق الصف وإشعال الفتنة. ولنتذكر أن البندقية وحدها لا تكفي في مواجهة هؤلاء بل البندقية وقاعات القضاء وقضبان السجون.

القوانين التي نتحدث عنها هنا لا تقتصر على قوانين الكراهية والتخوين والإقصاء فقط، بل على كل السلوكيات الأخرى. ما أحوجنا إلى قوانين صارمة وتطبيق دقيق لموضوع السير، التي تسببت حوادثه في المدن والطرقات في إرهاق مستشفياتنا بالمصابين، وحرمت المرضى من وجود أماكن لهم في غرف الطوارئ. كيف أصبحنا كرجال مرور نرى بأم أعيننا التوقفات الخاطئة ولا نعاقب مرتكبها؟ كيف تقبلنا السرعة وصمتنا عن تهور البعض عندما أوكلنا المهمة لـ«ساهر»، على رغم عدم وجود كاميراته في كل مكان؟ أين أنظمة السير داخل الأحياء؟ ولماذا نفتقد كل الوسائل الإرشادية في شوارع الحي، وكأنه منفصل تماماً عن المدينة وأنظمتها؟ ما أحوجنا إلى قوانين صارمة ومراقبة دقيقة ومتمكنة لمكافحة الغش في المطاعم. كم حالة تسمم غذاء تمر علينا ونحن نتناقش هل يتم التشهير بصاحب المطعم أم لا؟ كم من المواد الصالحة للتدوير في نفايات بيوتنا لكننا نضعها مع القاذورات العامة، ونهدر الكثير من مصادر توفير المواد، ونسهم في تلوث البيئة؟ لماذا لا نتوصل إلى آليات لمعاقبة أصحاب المنازل ممن يستهتر بمثل هذه التعليمات؟ بل، وقبل ذلك أين الحاويات الملونة التي تحدد توزيع النفايات؟ كم حالة تحرش جنسي تحدث في أماكننا العامة؟ وخير دليل على ذلك التقرير السنوي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما بإمكاننا وضع حد لهذه الظاهرة عبر قوانين خاصة لمكافحة التحرش، تجرم الفاعل وتجعل من ينوي التحرش يتردد مليون مرة قبل أن يستخف دمه أمام امرأة؟

أعتقد، أن المملكة تمر في منعطفات مهمة للغاية في تطوير خطتها الأساسية لبناء الإنسان، الذي من أجله تنفق الأموال وتقام المشاريع. لنعلم، إن إدارة وطن مثل المملكة اليوم لم تعد بتلك البساطة التي كنا نسير عليها في الستينات والسبعينات الماضية. الكثير من التعقيدات طرأت، والتعامل مع هذه التغييرات بأدوات الماضي وتغليب حسن النوايا والتوسلات لم يعد مجدياً. بناء الدولة المدنية الحديثة القادرة على الصمود يحتاج إلى أدوات حديثة ومستويات متقدمة من التأهيل والتدريب والأنظمة وآليات تنفيذها. الوعي المنشود لم يتحقق في المجتمعات المتقدمة عبر المناشدات، بل عبر وضع الأنظمة والتطبيق الصارم لها في كل الأوقات بلا توقف أو نسيان.

لو نفعل ذلك، فسنكتشف كم من الأموال تم توفيرها، وكم من الأنفس تم حفظها برعاية الله. لو نفعل فسنرى مدننا أجمل وشوارعنا أفضل، وسنستمتع بالتجول في أي مكان داخل هذا الوطن الكبير من دون تململ أو ضجر، وقبل كل ذلك سنشعر بالتعايش المنشود المنتج بين أبناء الوطن الواحد بعيداً من وجود أي مشاعر إقصائية لدى بعض الأقليات. سيشعر أصحاب الفتن أن المكان الذي كانوا يرونه فسيحاً أصبح ضيقاً جداً وستنعدم لديهم الرؤية، بسبب شدة النقاء والبريق. عندها سيفرون من هنا ليبحثوا عن الجحور والمستنقعات في أماكن أخرى خارج حدود هذه الأرض.

فهد الدعيثر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *