قمة المصير المشترك بمواجهة الممارسات الخاطئة

•• تشارك المملكة في قمة الدول العشرين المنعقدة في مدينة «برزبن» الأسترالية اليوم وغدا.. بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.

•• وقبل أن أدخل في التفاصيل الخاصة بأهمية هذه المجموعة ودور المملكة فيها منذ تأسست عام (1999م) وحتى اليوم.. فإنه لا بد أن أشير إلى الأمور التالية بداية:

عوامل مؤثرة في قرارات القمة

• أولا: إن هذه القمة تنعقد وسط متغيرين هامين هما: الأوضاع والمستجدات التي تعيشها أسواق النفط هذه الأيام.. وما قد يترتب عليها من انعكاسات على هيكل الاقتصاد العالمي، وكذلك تطورات الوضع الأمني في المنطقة وما يرتبه من أعباء جديدة على دولها ولاسيما الدول المنخرطة في التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف والعنف بكل ما يؤدي إليه من تحمل الجميع كلفة عالية قد تمتد لفترة غير معروفة وغير محددة.

• ثانيا: إن المملكة تعيش هذا الوقت بالذات أفضل حالة ازدهار تنموية.. وجه بها وتابع تنفيذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من خلال مشاريع ضخمة وغير مسبوقة.. بعضها تم تنفيذه وبعضها الآخر يجري العمل فيه والبعض الثالث يتم التعاقد عليه، وشملت تلك المشاريع قطاعات النقل والإسكان والصحة والتعليم بمستوياته المختلفة وكذلك المؤسسات المالية ومؤسسات الدولة الأخرى.. وهي المشاريع التي أخذت آثارها تنعكس بصورة ملحوظة على حياة المواطن وصورة الوطن في الداخل والخارج وتجذب إليه رساميل خارجية ضخمة لتنفيذها وتحقيق الأهداف المرجوة منها.

• ثالثا: إن سياسات المملكة سواء النفطية منها.. أو المالية والنقدية والتجارية أو المتصلة منها بالمساعدات وبرامج القروض والدعم لمختلف دول وشعوب العالم ولا سيما الفقيرة منها.. هي سياسات مستقرة ولا أظن أنه سيطرأ عليها تغيير كبير إلا بالقدر الذي تفرضه حالة الاقتصاد العالمي في الفترة القادمة شأنها في ذلك شأن سائر دول العالم ومجتمعاته.

صوتنا في القمة قوي

•• من كل ذلك نستنتج أن المملكة وسياسات المملكة وتوجهاتها ستكون محل اهتمام كبير من قبل بقية دول المنظومة التي تقود الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن.. وتحاول ــ من خلال هذه القمة ــ مجتمعة أن توفر حلولا مبتكرة للمشكلات في ضوء التحليلات والمؤشرات الظاهرة أمام الخبراء ومراكز اتخاذ القرار في دول المجموعة.

•• وبكل تأكيد.. فإن كل كلمة ستقولها المملكة أو مقترح تبديه.. سيكون محل نقاش مستفيض تنعقد له وفي ضوئه مؤتمرات وورش عمل.. وفرق متخصصة لدراسته وتحليله.. والخروج منه في نهاية الاجتماع بقرارات على مستوى المسؤولية الدولية.

•• نقول هذا الكلام ليس من باب الادعاء أو الافتراض وإنما نقوله من خلال الوزن الدولي الذي حققته المملكة بسياساتها المعتدلة.. والمتوازنة.. واقتدارها على التوفيق بين مصالحها الحيوية ومصالح كافة دول العالم ومجتمعاته.

•• فنحن كبلد عرف بأنه ينتهج سياسات بترولية غير عشوائية ويحسب حسابا لكل الأمور بعناية شديدة.. يدرك أن أي ضرر يلحق بعضو في منظومة الدول العشرين أو يتجاوزها إلى غيرها يمكن أن يلحق الضرر بالكل ولا يخدم أي طرف بأي حال من الأحوال.. وإذا بدا أن هناك من يقول كلاما غير هذا.. فإنه يصدر في ذلك عن جهل أو غرض.. وكلاهما مردود عليه.. وبالذات عندما يكون ذلك القول نتيجة للخلط بين ما هو اقتصادي بحت وبين ما هو سياسي.. أو ذو طابع آيديولوجي.

•• ولكي نؤكد ذلك للجميع.. فإنه لا بد أن نعود إلى السياسات الواضحة التي أرساها الملك عبدالله من خلال خطاباته في القمم الأولى في واشنطن بتاريخ 15 نوفمبر 2008م، والثانية في لندن بتاريخ 2 أبريل 2009م، والثالثة في مدينة تورنتو الكندية بتاريخ 27 يونيو 2010م وكذلك في القمة الرابعة التي حضرها سمو وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل ممثلا لخادم الحرمين الشريفين وعقدت في مدينة سيئول الكورية في شهر نوفمبر عام 2010م.

الملك يرسم خارطة طريق للإصلاح

•• ففي القمة الأولى الهامة التي وضعت أسس وقواعد العمل وتوجهاته لقمة الدول العشرين التي انعقدت في ظل ظروف صعبة كان يمر بها الاقتصاد العالمي قاد إلى ركود مخيف.. قال الملك بوضوح «إن الخلل في رقابة القطاعات المالية هو الذي أسهم في سرعة انتشار الأزمة المالية»، ولم يكتف ــ حفظه الله ــ بتشخيص المشكلة بل طالب بتعزيز الدور الرقابي للصندوق الدولي، ودعا إلى المزيد من التنسيق والتعاون الوثيق بين دول العالم لتحمل أعباء المرحلة والخروج بحلول عملية وقابلة للتطبيق وإنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيار.

•• ولم يكتف الملك بهذا.. بل أطلع الدول المشاركة في القمة على سلسلة من الخطوات والإجراءات العملية التي تتجه المملكة إلى اتخاذها ومنها: تخصيص مبلغ 400 مليار دولار تنفق لدعم الاقتصاد السعودي على مدى الخمس سنوات القادمة، وقد حدث ذلك بالفعل وشهدنا كيف أن كل مدينة وقرية في بلادنا قد تحولت إلى ورشة عمل ضخمة لمشاريع رصدت لها البلايين فأعطت وسوف تعطي أكلها عند الانتهاء منها بإذنه تعالى.
ليس هذا فحسب بل إن الملك أضاف قائلا: «إن المملكة مستمرة في القيام بدورها الإيجابي في العمل على استقرار السوق البترولية»، داعيا ــ في نفس الوقت ــ إلى تعاون الدول المستهلكة بالتعاون مع الدول المنتجة وعدم استهداف البترول بسياسات تؤثر سلبا عليه، وكأنه يقرأ بذلك المستقبل منذ وقت مبكر ويرى ما قد يحدث لهذه السلعة في ظل توجه الآخرين إلى البحث في البدائل بكل ما ستؤدي إليه من أضرار بيئية أو سعرية أو اقتصادية لا يعرف مداها إلا الله.

•• والمملكة في إطار سياساتها النفطية المستقرة هذه، تحملت كما قال خادم الحرمين الشريفين كثيرا من التضحيات ومن ذلك إنتاج طاقة إضافية بلغت مليوني برميل يوميا حرصا منها على نمو الاقتصاد العالمي بصورة تحفظ مصالح جميع الأطراف.

أعلى نسبة مساعدات عالمية

وعلاوة على هذا فإن الملك عبدالله طمأن الجميع في خطابه آنذاك إلى المشاركين في القمة ومتابعيها في كل أنحاء العالم بأن المملكة ماضية في سياساتها الرامية إلى استمرار مساعداتها للدول النامية في إطار معالجة الأزمة وتداعياتها على هذه الدول بصورة أكثر تحديدا.. وهي مساعدات بلغت ما نسبته (2 %) من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة عالية تفوق ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يتجاوز حجم مساعداتها للدول النامية (1 %) لإيمان المملكة بحق المجتمعات الفقيرة في الحياة الكريمة أيضا.

•• أما قمة لندن التي شارك فيها الملك، فقد ركزت على بعض المقترحات الهامة لإنعاش الاقتصاد العالمي وتنشيط عمليات الإقراض ودعم الاستثمارات وإصلاح الفجوات الموجودة في المؤسسات الدولية، كما ناقشت مقترحا بإنشاء نظام دولي للإنذار المبكر.

•• وكان لنا في هذه القمة حضور قوي ومساهمة بناءة في بلورة العديد من الإجراءات الفعالة للحد من حالة الركود الاقتصادي الذي اجتاح العالم وتجنب آثاره المعطلة لنمو العالم.

قوة الاقتصاد السعودي لماذا؟!

•• وجاءت قمة تورنتو الثالثة بحضور الملك عبدالله ومساهمته الفعالة بمثابة نقطة ارتكاز في إعادة الانتعاش إلى الاقتصاد الدولي.. يومها تطرق الملك إلى الأنظمة المالية المطبقة في العالم آنذاك ودعا إلى إصلاحها لتفادي تعرض الاقتصاد العالمي لأزمات مماثلة في المستقبل، ومنها تطبيق أنظمة إشرافية ورقابية قوية تعد بديلا أنسب من فرض ضرائب على المؤسسات المالية، موضحا أن قدرة النظام المالي في المملكة على الصمود تعززت على مدى السنوات الماضية نتيجة للإجراءات الصارمة والرقابة الاستباقية التي اعتمدناها، إضافة إلى احتفاظ النظام المصرفي لدينا بمستويات ربحية جيدة في أثناء الأزمة وبعدها.. ومن السياسات المالية والاقتصادية التي طبقناها في تلك الفترة الاستمرار في برنامجنا الاستثماري في القطاعين الحكومي والنفطي وذلك بإنفاق 400 مليار دولار على مدى 5 سنوات.

•• شيء آخر نوه إليه الملك في تلك القمة المفصلية الهامة، هو تقلب أسعار النفط في العامين 2008 و 2009م، والتي أضرت بالمنتجين والمستهلكين على حد سواء.. حيث دعا الدول المستهلكة إلى تنظيم أسواقها المالية وكذلك أسواق السلع الأولية بصورة أقوى وأكثر فاعلية.. كما ذكر بقرار المملكة لرفع طاقتها الإنتاجية إلى 12.5 مليون برميل يوميا، وطالب الدول المستهلكة بالتعاون مع الدول المنتجة لضمان استقرار الأسواق وأمن الطلب والإمدادات لضمان تدفق الاستثمارات المطلوبة في الطاقة الإنتاجية وحصول الدول الفقيرة على الطاقة من خلال تبني سياسات وبرامج عملية لتنفيذ مبادرة الطاقة من أجل الفقراء.

•• شيء آخر مهم تطرق إليه الملك عبدالله يومها، هو دعوته إلى العمل على استمرار انتعاش التجارة العالمية بهدف تسريع معدل النمو العالمي وذلك بالحد من القيود الحمائية ومساندة التمويل المرتبط بالأنشطة التجارية.. وتأكيده على الدول المتقدمة بضرورة معالجة دعمها للمنتجات التي تمتلك فيها الدول الفقيرة ميزة نسبية..

تنمية في الداخل وإصلاحات مطلوبة للخارج

•• ومن الواضح أن الملك عبدالله كان مهموما بالأوضاع الاقتصادية العالمية في تلك الفترة وفي نفس الوقت بدا حريصا على الحد من آثارها شديدة الخطورة على بلادنا ومواطنينا.. واتخاذه قرارات تاريخية غلبت جانب الإنفاق على الانكماش والتراجع وأثبتت المملكة بذلك أنها لم تجتز الأزمة فحسب وإنما ساعدت دول العالم الأخرى على اتخاذ خطوات مماثلة إلى حد ما..

•• ولم تبتعد قمة سيئول عام 2010م عن هذا المسار بل اعتبرت امتدادا هاما للسياسات وسلسلة الإجراءات التي اعتمدتها القمم السابقة.. بعد مداولات غاية في الأهمية والدقة.. ومن أبرز قراراتها توزيع حصص المساعدات من الصندوق الدولي في ضوء زيادة القروض المقدمة للدول النامية والناشئة.. ووضعت آلية لمراقبة القطاعات المالية في العالم لمعالجة الخلل في القطاع المالي.

•• هذه المساهمة الفعالة في هذه المنظومة التي تقود دولها العشرون مسيرة الاقتصاد العالمي.. تمثل بالنسبة لنا مصدر قوة حقيقية.. وتكسبنا مكانة عالمية مرموقة.. وتجعلنا جزءا من صنع القرارات المحورية لتوجيه دفة الاقتصاد في هذا العالم، وهذا يحدث بالنسبة لنا ليس من فراغ وإنما من موقعنا في خارطة الدول الأكبر إنتاجا للنفط بعد الولايات المتحدة الأمريكية والأكثر نصيبا في احتياطات السلعة.. إذ تبلغ نسبته بالنسبة لنا (12.8 %) من المخزون العالمي..

الأمير سلمان: كيف نحافظ على استقرار العالم

•• وبالرغم من أهمية هذا الكارت الذي نمسك به في أيدينا إلا أن المملكة كانت باستمرار أكبر معين للاقتصاد العالمي على النهوض ولم تستخدمه في يوم من الأيام ضد مصالح العالم.. والاقتصار فقط على تلبية مصالحها فقط وإنما كانت حريصة أشد الحرص على المحافظة على مصالح دول العالم وشعوبه سواء بسواء جنبا إلى جنب المحافظة على مصالحنا أيضا..

•• وعندما يشارك سمو ولي العهد الأمير سلمان في قمة برزبن الأسترالية اليوم وغدا.. فإنه يؤكد للعالم من جديد أن المملكة العربية السعودية دولة إصلاح.. وتنمية.. وبناء.. وبالتالي فإنها تشارك في هذه القمة لتعزيز وتكريس سياساتها الممتدة والقائمة على خدمة الاقتصاد العالمي والحفاظ على الحد المطلوب من استقرار السلعة في العالم والابتعاد به عن الركود.. أو التخبط.. أو الاجتهادات..

•• وإذا وجدت أطراف أخرى سواء داخل منظمة أوبك أو خارجها تتصرف بشكل لا يخدم هذه المبادئ ولا يلتزم بها.. فإن قمة العشرين من جهة.. ودول العالم قاطبة لن تسمح لها بأن تعمل على هدم ما بنته هذه المنظومة الكبيرة على مدى 16 سنة وتحديدا منذ بداية تأسيس منظمة أوبك عام 1999م وحتى اليوم.

•• نقول هذا الكلام في هذا الوقت بالذات لأن سلعة النفط ترتبط ــ بصورة مباشرة ــ بمصير دول وشعوب العالم.. وليس من حق أي طرف أن يتبع سياسات تتعارض مع مصالح المجموعة الدولية «أولا» ومع قرارات وسياسات الدول العشرين التي حملت على عاتقها مسؤولية استقرار الأسواق العالمية ونحن في مقدمتها.

•• وسوف يؤكد سمو الأمير سلمان في كلمة خادم الحرمين الشريفين إلى هذه القمة على نفس السياسات الثابتة للمملكة.. وعلى أهمية استمرار التعاون بين الدول العشرين.. وكذلك على ابتكار طرق وأساليب خلاقة لتفادي أي هزات جديدة قد تلحق بأسواق السلعة حسب المؤشرات الظاهرة أمامنا في الوقت الراهن ..

•• ونحن متأكدون بأن هذه القمة التي تنعقد اليوم وفي مثل هذه الظروف حريصة على أن تخرج بحلول ومعالجات عملية لتطويق أي أزمة.. والإبقاء على وتيرة التنمية المتصاعدة في دولنا ومجتمعاتنا..

•• وكعادة المملكة العربية السعودية.. فإن القمة موعودة بأن تقف على حزمة مقترحات بناءة تقود هذا العالم إلى المزيد من الاستقرار، تماما كما تعودت المملكة أن تكون حاضرة في كل اجتماع.. وصاحبة مبادرات أخذ العالم بها وما زال بتعاون معنا في تحقيق السلامة للأسواق.

•• وما نستطيع أن نؤكده الآن هو:

•• أن مسحة التشاؤم التي تخيم على سماء هذا العالم حول مستقبل الاقتصاد العالمي.. بفعل تراجع أسعار النفط في الآونة الأخيرة.. لا وجود لها عندنا.. إذا تعاونت وتضامنت الدول المنتجة والمستهلكة.. وتوافقت على سياسات مشتركة.. وبنت خططها المستقبلية على أسس تكاملية..

•• إذا حدث هذا.. فإن الانتعاش وليس الركود سيكون هو السائد في العالم وبالتالي فإن اقتصادات الدول ستمضي في خططها وبرامجها الطموحة..

•• ولحسن الحظ أن الكثير من دول مجموعة العشرين توافقنا وتتفق معنا في هذا التفكير.. وإنه إذا كان هناك من له رأي أو سياسة أخرى فإن عليه أن يتحمل وحده نتائج تلك السياسات أو الممارسات الخاطئة.. وسوف يجد نفسه وحيدا في هذا العالم.

هاشم عبده هاشم

نقلا عن “عكاظ”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *