خربشة ومغزى

ملحمة جلجامش .. من شوامخ الأدب العالمي

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

هذه الملحمة يصح أن نسميها أوديسة العراق القديم، يضعها الباحثون ومؤرخو الأدب المحدثون بين شوامخ الأدب العالمي. والحضارة السومرية التي أنتجت هذه الملحمة، مكانتها سامية بين حضارات العالم القديم. تعتبر ملحمة جلجامش أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في تاريخ جميع الحضارات. وهي أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس هنالك ما يُقرن بها أو ما يُضاهيها من آداب الحضارات القديمة قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني.

والملحمة دوّنت بالخط المسماري قبل 4000 عام، وهي ذات جاذبية أثارت قضايا وعالجتها، وكثير منها ما يشغل بال الانسان وتفكيره، وتؤثر في حياته العاطفية والفكرية؛ كمثل الموت والحياة، وما بعد الموت والفناء والخلود، وكذلك حدث الطوفان القديم. وفصلت الملحمة أيضاً بشكل بارع ومؤثر ذلك الصراع الأزلي بين الموت والفناء المُقدرين، وبين إرادة الانسان المغلوبة المقهورة في محاولتها التشبث بالوجود والبقاء، والسعي وراء وسيلة الخلود؛ أي أنها تمثل مطلب الإنسان المكرر “التراجيديا” أو ما يسمى اللغز المُحير لعاطفة الفرد وأحاسيسه، ورغباته وغرائزه التي تزداد عمقًا وألمًا، كلما شارف الإنسان على الشيخوخة. والملحمة لا تغفل في إشاراتها كذلك، لما يدفع للإقبال على الحياة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال الفردي وإنجاز الأعمال.

جلجامش معروف في النصوص التاريخية أنه حاكم الوركاء، وهي مدينة سومرية تقع على الفرات على بعد 30 كم شرق السماوة حالياً. وهو بطل الملحمة وصاحبه المسمى (انكيدو) يعتبر البطل الثاني. يرجع زمن اكتشاف الألواح الطينية للملحمة إلى عهد الاستكشافات الأثرية، التى قام بها أوائل المكتشفين من هواة الآثار، وقناصل الدول الأجنبية في مدن العراق منتصف القرن التاسع عشر ميلادي. ولا سيما (أوستن هنري لايارد، وهرمز رسّام، وجورج سمث)، والتي وجدت في خزانة كتب الملك الأشوري أشوربانبيال (668-626) قبل الميلاد. وهي تتألف من اثني عشر لوحًا وكل لوح فيه 300 سطر. ولم يفطن إلى أهمية هذا الاكتشاف إلا منذ عام 1872م، حين أعلن (جورج سمث) عنها في لندن فأثارت حماس المتابعين والباحثين، مما حدا بجريدة (ديلي تلغراف)، أن تتبرع بألف جنيه استرليني لينفقها جورج في مواصلة الحفر في خرائب نينوى. وقد نجح فعلاً في العثور على أجزاء مكملة ونشر بحوثه قبل وفاته عام 1876م وهو في السادسة والثلاثين من عمره.

يُحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة، وهي جزء من مكتبة الملك الأشوري بانيبال في المتحف البريطاني حالياً. وهناك أيضاً تمثال لجلجامش يحمل أسداً وأفعى في متحف اللوفر بباريس يعود إلى 800 ق.م، وتمثال آخر له في متحف بيرغامون في ألمانيا.

ونختم بجزء من مقطوعة في اللوح العاشر حينما خاطب أحدهم جلجامش فقال له:
إنّ الموت قاس لا يرحم

هل بنينا بيتاً يقوم إلى الأبد

وهل ختمنا عقداً يدوم إلى الأبد

وهل يقتسم الأخوة ميراثهم

ليبقى إلى آخر الدهر

وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد

وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام

والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها

فتبصر وجه الشمس حتى يحل أجلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *