خربشة ومغزى

نهاية الشاه محمد رضا .. مشهدٌ يتكرر

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

نهاية الشاه محمد رضا، هل هو مشهد يتكرر؟!. ذلك علمه مطوي بالغيب. وفي ناموس الحياة وتحولات البلدان الظلم لا يدوم، والعدل لا بد يومًا يأتي. الحركات الاحتجاجية على الشاه محمد رضا نمت وتراكمت بسبب سياسة حكم الشاه، بدأت في الستينات وزادت في السبعينات بعدما تضاعف مداخيل النفط وأسعاره عام 1973م؛ إذ مكنت الشاه من تقوية منظمة السافاك، التي تضم المخابرات والأمن القومي الإيراني والشرطة السرية. هذه المنظمة أسسها الشاه أثناء حكمه ولعبت دورًا محوريًا في تنفيذ سياسات الاستبداد، وانتهاك حقوق الانسان. ولك أن تتأمل بمقاربة أفعال ونفوذ الحرس الثوري اليوم.

وهناك سبب آخر دفع إلى الاحتجاجات على الشاه، هي السياسات الاقتصادية التي تم اتخاذها، وكانت مضللة، ولم تعالج هموم ومعاناة الناس. كل تلك الأسباب أحدثت عزلةً وانزواءً الطبقة العليا والوسطى من المشهد السياسي، واستعداء النُخب والمثقفين والطلاب وبعض رجالات الدين. كانت المظاهرات والمصادمات مع الأجهزة الأمنية، والتي ضمت العمال وأصحاب المهن، قد زادت وتيرتها في الشركات والأسواق والشوارع، وانتقلت إلى مناطق عدة في ايران.

الشاه محمد رضا في نهاية حكمه وحينما اشتد عود المعارضة، استمر في جهوده والتماساته من الزعامات الدينية والمثقفين، وهما العمودان – آنذاك – في الرأى العام الإيراني، طالبًا تحقيق السلم والنظام بإيقاف الاحتجاجات بما فيها خطاب وجْهَهُ إليهم قال فيه:” وهنا أطلب من آيات الله الإجلاء والعلماء الكبار قادة المجتمع الروحيين والمحافظين على الإسلام والمذهب الشيعي بالأخص، أن يحاولوا الحفاظ على الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، وذلك بأن يرشدوا الناس ويطلبوا منهم المحافظة على السلم والنظام، كما طلب من المثقفين وقدوات الشباب أن يساعدوا في تمهيد الطريق لكفاح حقيقي من أجل إقرار ديمقراطية حقيقية، وذلك بأن يطلبوا منهم المحافظة على السلم والنظام “وأنهى خطابه بالتالي:”دعونا جميعًا نفكر معا في إيران، واعلموا أنه فيما يتعلق بثورة شعب إيران ضد الاستعمار والظلم والفساد أنا في صفكم، وسأكون معكم للحفاظ على سلامة أراضي الدولة والوحدة الوطنية والمبادئ الإسلامية، وإقرار الحريات الأساسية وتحقيق مطالب الشعب الإيراني وتطلعاته”.

بات الشاه غير قادرٍ على حسم الأزمات التي أصابت إيران، زادها قلة حيلته في المرض بالسرطان. وبالطبع طوال فترة الإضرابات كانت أمريكا وبريطانيا تراقبان الوضع بقلقٍ شديدٍ دونما تدخلٍ مباشرٍ، وعُرف بعدها بزمن كيف كانت لهما في الخفاء وفرنسا معهما، تأثير إيجابي مقصود لإنجاح الثورة لمصالحهم وأهدافهم.

المشهد الأخير لأيام الشاه، هو ما فعلة شابور بختيار الذي كان حينها نائب زعيم الجبهة الوطنية، وقد زار الخميني في باريس وصُدَّر بيان مشترك للساسة في الغرب وتبيين مكانة الخميني. بختيار هو كذلك قَبَلَ عرض الشاه بتشكيل حكومة كمحاولة تخفيف الضغوط، إلا أن الخميني اعتبر تلك الحكومة غير شرعية ووافقته أحزاب المعارضة. فما كان من بختيار إلا أن يشكل مجلسًا ثوريًا سريًا، ضم فيه علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وآية الله محمود طالقاني، وحجة الإسلام علي حسيني خامئني، وغيرهم من رجالات الدين بالإضافة إلى مهدي بازرگان.

أما الشاه حينما عزم أن يغادر لرحلة خارجية علاجية، فقد شكّل مجلسًا ملكيًا للإشراف على المهام الملكية في غيابه. بُعيد سفر الشاة، سافر رئيس المجلس الملكي الذي فوضه الشاه إلى باريس وقدّم استقالته إلى الخميني.

حينما رحل الشاه مع الملكة فرح من إيران كانت الدموع تملأ عينيه، أظهرتها الصور التي التقطها مصورون في مطار طهران، وذلك في السادس عشر من يناير عام 1979م، وكانت رحلة بلا عودة.

بعد عشرة أيام منها عاد الخميني من فرنسا إلى طهران، واستُقبل استقبالاً صاخبًا. بعد ذلك طلب الخميني من مهدي بازرگان أن يشكل حكومة مؤقته. بازركان كان رفيقًا لبختيار في الجبهة الوطنية، وصديقًا مقربًا لآية الله طالقاني الذي كان أعلى قادة الثورة مكانة بعد الخميني. بازرگان حينها لم يكن ميالا إلى قبول عرض تشكيل الحكومة ووافق شريطة أن تكون له الحرية في اتخاذ القرارات.

شرائح المجتمع الإيراني من القضاة وكبار الموظفين وبعض الوزراء وحتى مسؤولو البلاط الملكي وآخرون من ذوي القرابة بالعائلة المالكة، قبلوا وأيدوا هذا التحول الثوري، أما الجيش فقد التحق أخيرًا بمطالب الشعب وأصبح محايدًا، بعدما ذهب أثر الشاه وسلطته، وكانت هذه نهاية حكم الأسرة البهلوية التي لم يحكم فيها إلا اثنان رضا وابنه محمد شاه، ودام حكمها ستة وخمسين عامًا.

إيران الحالية لم تنطفئ فيها جذوة الاضطرابات عند الإثنيات المتنوعه بما فيها الفارسية؛ لما تعانيه من ظلمٍ وجورٍ، وتسلطٍ وفسادٍ فئوي. لكن المفارقة اليوم عند المراقبين هو الخذلان الإعلامي والصمت السياسي الغربي بين ما تم في نهاية حكم الشاه، وما هو حاصل في إيران اليوم. حيث كان الإعلام الغربي عبر تغطياته ومراسليه أبرز الثورة الإيرانية في بدايتها، وقائدها الخميني الذي صنعوا له حضورًا واسعًا على شاشات التلفزة العالمية، وكان يُنظر لما يجري على أنه انتفاضة من أجل الحرية والاستقلال، وضد القهر والفساد والهيمنة الأجنبية الإمبريالية؛ حيث سُميت بثورة المجتمع ضد الدولة والإطاحة بالشاه. بالطبع ملابسات تلك الحقبة الزمنية جعلت الثوار باختلاف أطيافهم باتجاه واحد لتغيير النظام. وكذلك تم خلالها رصد الاندفاع الثوري الذي وُصف كأنه زوبعة عصفت بإيران، وقلبت كل شئ. حتى ذكر إبراهيم يزجي، أحد كبار مساعدي الخميني في باريس والذي أصبح وزيرًا للخارجية في الحكومة المؤقتة بعد الثورة قائلا:”كيف أن جيله الثوري فشل في النظر أبعد من الهدف القصير المتمثل في الإطاحة بالشاة”.

وهكذا انتصرت الثورة، فكان الخميني وملازميه جاهزين للإعلان الرسمي عن الجمهورية الإسلامية؛ حيث تم تعيين مهدي بازرگان رئيس للحكومة المؤقتة، ولم يسلم بازرگان من انتقادات حادة من التيارات الدينية، حينما أضاف لفظة الديمقراطية في وصف مسمى الدولة؛ جمهورية إسلامية ديمقراطية.

الثوار بعد انتصارهم وصفوا نظام الشاه والمرتبطين به بالنظام الطاغوتي، نسبه إلى ما أطلقه الخميني على الشاه أنه طاغوت. وهذا مهد إعلان محاكمات بإجراءات قضائية سريعة لا تستوفي شروط التقاضي والعدالة، فتم إعلان الإعدامات التي طالت الكثير أبرزهم الجنرال نعمت الله نصيري رئيس السافاك، تبعه رئيس الوزراء أمير عباس هويدا، ورئيسي مجلس الشيوخ عبدالله رياضي، وجواد سيد وغيرهم كثير. وقد تولى محاكمتهم حينها القاضي صادق خلخالي.

النزاعات امتدت أعقاب الثورة لتشمل الشوارع يقودها مسلحون مؤيدون للخميني، أطلقوا على أنفسهم حزب الله ضد فلول النظام السابق واليساريين والعلمانيين، وهم يحملون السلاسل والعصي، ويهتفون لا حزب إلا حزب الله، ولا قائد إلا روح الله وهو الاسم الأول للخميني.

تلك الأثناء القوى اليسارية ذات الصبغة الماركسية والمتمثلة في منظمات فدائيي خلق، ومجاهدي خلق انقسموا، فبعضهم قرروا العمل داخل النظام الجديد، وآخرون لجاؤا إلى الكفاح المسلح ضد النظام وانتهى بهم الأمر إلى المنفى.

أما الإعلام بعد الثورة والمتمثل بالصحافة والإذاعة والتلفزيون فسرعان ما تحول إلى مؤسسة دينية، واستبدل المحتوى الترفيهي الموسيقي، بالبرامج الدينية وفُرض الحجاب على الموظفات.

بعدها أسس قادة الثورة جمعية خبراء مختارة من 72 عضوًا، كان أكثرهم من اتباع الخميني لكتابة دستور الدولة، الذي ركز على المفهوم الجوهري لولاية الفقية، ومزج الدستور في كثير من مواده مفاهيم الدين والتمذهب، لينتج عنه دولة إيدولوجية أقرب إلى ثيوقراطية (حكم كهنة)، بل تكشّف عنها لاحقاً الصفة المبتكرة والفئوية الحديثة التي تبناها الخميني وأتباعه وطبقوها.

وملمح آخر؛ أن الثورة في أيامها الأولى وبعد سقوط نظام الشاه بيومين الثالث عشر من فبراير عام 1979م، حدث أن هاجمت مجموعة مسلحة من الفدائيين الثوار السفارة الأمريكية واحتلوها لفترة قصيرة ثم طردتهم القوى الموالية للحكومة الجديدة التي يرأسها مهدي بازرگان.

ختامًا؛
سردية المراحل الأخيرة لنهاية حكم الشاه، حفظتها ذاكرة الشعوب الإيرانية. وهي لا زالت تُذكي اليوم جذوة الشعب الإيراني الذي يئن من الظلم ويريد استعادة العدالة والعيش بسلام، وأن الثورة على الشاه التي ضحوا من أجلها، تُذيقهم المآسي أكثر عنفوانًا، وكأن المشهد يتكرر بذلك. وهم ينتظرون لعلَّ العتمة الظلماء يعقبها النور، والضيق والشدة يتبعها الرخاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *