مرض الجرائد

كان أبي «مدمن جرائد» إذ لا يستطيع أن يعود إلى البيت إلاّ وفي يده على الأقل خمس جرائد مختلفة، يوزعها علينا فننكب على قراءة صفحاتها الأخيرة أولاً، ثم نتمم تصفح الباقي، وفيما ينشغل هو بتناول غدائه متأخراً، ننشغل نحن بقراءة تلك الصحف وتبادلها… كانت قراءة الصحف توفر لأبي فترة هدوء غريبة في البيت ليرتاح بعد عودته من العمل، ولعلّ أمي التي كانت وحدها تتأفف من تراكم الجرائد في بيتنا وهي معذورة بحكم أنها لم تتعلم القراءة باللغة العربية إلا حين أصبحنا في الجامعات، ومع هذا فقد استثمرت في تلك الجرائد المتراكمة إذ كانت ترسلها مع أخي ليبيعها بالكيلو، ومنها استمدّ أخي فكرة بدء أنشطة تجارية متنوعة باكراً في حياته، فبعد بيع الجرائد القديمة، باع العصير لرواد سوق الجمعة وهو مازال في العاشرة من عمره.. مستعملاً حوض أسماكه… ولم تكسد تجارته إلاّ حين استبدل ذلك الحوض بحوض أكبر لم يتحمل زجاجه برودة قطع الثلج… وهذه حكاية أخرى..!

لوثة «الجرائد» تلك أصبنا بها جميعاً، رغم تخلي والدي عن هوايته بعد أن خانته عيناه لمواصلة القراءة، فقد أصيب بجلطة شلّت نصف جسده، وأغمضت إحدى عينيه، ومن أطرف ما فعله أخي ليساعد أبي على ممارسة هوايته أنه قام بإلصاق عينه بشكل يبقيها مفتوحة، إذ لم يطلب أبي شيئاً بعد أن استعاد شيئاً من عافيته إلا «جريدة»!

أما نحن المرضى بالجرائد بالوراثة فمازلنا نضعف أمام الجرائد كلما مررنا قرب أكشاك بيعها، وما زلنا نقتني جريدة على الأقل حتى وإن كان ذلك من باب الحنين للماضي.. أمّا أخي صاحب «التجارات الغريبة»، فإنه يقتني الجريدة ويقرأ لأبي ما يراه مناسباً لمزاجه.. وهذا أكثر خبر جعلني أتأثر حين سمعته.

في مطار الجزائر حين أزور الوطن، أقتني جريدة «النصر» العريقة التي كان يعمل فيها أبي، وحين أغادر أيضاً تكون «النصر» آخر ما أقتنيه من المطار مع علب «دقلة نور» للتمور الجزائرية الفاخرة.

«مرض الجرائد» ذاك لم أشفَ منه حتى في هذا الزمن الإلكتروني قاهر الورق، فكلما عثرت على جريدة خفق قلبي وكأنه يخفق للحبيب الأولِ..! أنكب عليها وأبدأ بتصفحها من الآخر كما كنت أفعل وأنا صغيرة، ولا شيء أغراني في زمن الإنترنت لتصفح الجرائد إلا النادر لتعقب بعض الأخبار والتأكد من صحتها، إذ تظل مصداقية «الورقي» أقوى من ذلك الفضاء السهل الاختراق على الشبكة العنكبوتية، حيث يتداخل الكذب والإشاعة والترويج المغشوش بالخبر الصحيح، ما يجعل ضياعنا كقراء أكثر من مؤكد..

لقد كانت الجرائد الورقية أيقونات جميلة، يصعب اختزال تأثيرها علينا، ويبدو أن الشفاء منها صعب كون المصاب بها ميؤوساً من حالته.

فضيلة الفاروق

(الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *