ما خفي… كان سقوطاً مريعاً للمهنية

منذ انطلاقة قناة الجزيرة القطرية 1996 أسالت حبرا كثيرا يتعلق بسياستها التحريرية وما اعتبر تدخلا في شؤون الدول العربية الداخلية، بما يخالف ما كان سائدا في الإعلام العربي حتى ذلك التاريخ. منطق قناة الجزيرة يقول إنها تقبل كل الانتقادات المتعلقة بسياستها التحريرية ولكنها تحقق أعلى معايير المهنية والموضوعية وعرض كل الآراء والأفكار. باسم تلك المهنية كان علينا أن نستمع إلى الإسرائيليين، باسم تلك المهنية وجد نظام الملالي منبرا يصل من خلاله إلى غرف النوم العربية، باسم تلك المهنية خرج الخطاب المتطرف من قمقمه، باسم تلك المهنية أصبح الخطاب المذهبي والطائفي جزءا من حياتنا اليومية، وباسم تلك المهنية جرت محاولة أدلجة الشعوب العربية بما يتناسب مع تيار سياسي واحد. على مدى عقدين من الزمن كانت الجزيرة تحاضر علينا بأنها نموذج للمهنية العالية ومدرسة الأداء الإعلامي الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. ولكن منذ الثورة التونسية وانطلاقة ما سمي الربيع العربي، تخلت الجزيرة حتى عن تلك المهنية الشكلية التي حاولت الحرص عليها، وعصفت بميثاق الشرف المهني الذي وضعته هي بنفسها لنفسها، ودعت وسائل الإعلام الأخرى إلى التوقيع عليه، ومنذ بداية الأزمة القطرية في شهر يونيو الماضي لم يعد يساوي هذا الميثاق الحبر الذي كتب به، فتحولت القناة إلى أداة من أدوات البروبوغندا الإعلامية، دون أي حساب لا للمهنية ولا للموضوعية ولا حتى لمعايير العقل والمنطق. الفيلم الوثائقي (ما خفي أعظم) الذي بثته الجزيرة بداية شهر مارس يمثل نموذجا صارخا عن هذا السقوط المهني.

التوازن في هذا الفيلم كان غائبا غيابا تاما فهو نقل وجهة نظر واحدة تمثل الحكومة القطرية والرواية القطرية، ورب قائل يقول إنه لم يكن متاحا لها أن تستضيف من يعبر عن وجهة النظر الأخرى، ولكن هذا لا يعفي الفيلم وصانعيه لأن القنوات التي تلتزم بالحدود الدنيا من المهنية تجعل صانع الفيلم نفسه يعبر عن وجهة النظر الأخرى، ويطرح كل المعطيات المتوفرة والتي تعبر عن وجهة النظر تلك. لم يكن الفيلم مستقلا بل كان منبرا للحكومة القطرية وأجهزة استخباراتها حيث فتحت المؤسسات أمام صناع الفيلم، وبالتأكيد لم يكن هدفه هو كشف الحقيقة أو كشف معلومات سرية كما زعم وإنما كان الهدف هو إدانة مسبقة للدول المقاطعة لقطر. غياب وجهة النظر التي تعبر عن الدول المقاطعة من جهة والحضور الطاغي لوجهة النظر الحكومة القطرية من جهة ثانية، والهدف السياسي الواضح من جهة ثالثة يجعل الحديث عن المصداقية ضربا من الترف لا يحتمله الفيلم، وهذا ما يتنافى مع المادة الأولى من ميثاق الجزيرة للشرف الإعلامي المزعوم، والتي تقول: (التمسك بالقيم الصحفية من صدق وجرأة وتوازن واستقلالية ومصداقية وتنوع دون تغليب للاعتبارات التجارية أو السياسية على المهنية.)! أما في المادة الخامسة فتقول: (تقديم وجهات النظر والآراء المختلفة دون محاباة أو انحياز لأي منها.)!

وإذا ما غصنا أكثر في تفاصيل الفيلم نكتشف بسهولة أنه تنافى مع معايير العمل الصحفي برمته، فما يتعلمه طلاب السنة الأولى في أي قسم للصحافة أن أي عمل صحفي يجب أن يجيب عن الأسئلة الخمسة: (ماذا، من، متى، أين، لماذا) وسؤال (لماذا) غاب عن الفيلم برمته، فالأمير المعزول خليفة بن حمد استفاق ذات صباح وقرر أن يقوم بانقلاب، وكذلك كل الذين جندهم، لم يكلف الصحفي الذي أعد الفيلم أن يسألهم لماذا قمتم بذلك والسؤال الذي نطرحه نحن: لماذا ابتعد الفيلم عن هذا السؤال الجوهري؟ لأنه ببساطة سؤال مسكوت عنه من قبل السلطات القطرية ويطرح مرة أخرى مشروعية النظام السياسي برمته.

إنه عملية انتقاء فجة للأحداث التاريخية بما يتناسب مع الدعاية السياسية، لذلك كان من الطبيعي أن يقع الفيلم في تناقضات جوهرية، فالشخصية الرئيسية التي اعتمد الفيلم على روايتها وهو السيد جابر المري، الذي تحدث في الفيلم أنه التقى مع الشيخ خليفة بن حمد من أجل تجنيده في هذه العملية، بينما يتحدث بعد ذلك أنه التقى مع الشيخ زايد بن سلطان برفقة الأمير خليفة بن حمد، ويذكر بأن الشيخ زايد يحاول إقناع الأمير خليفة بالمحاولة الانقلابية. والسؤال إذا كان الأمير خليفة غير مقتنع بهذه المحاولة كيف يجند جابر المري لمساعدته؟! وفي سبيل الابتعاد عن الانقلاب الذي قام به الشيخ حمد بن خليفة على والده فإن الفيلم تغاضى عن مسألتين هما غاية في الأهمية: الأولى وضع هذه المحاولة الانقلابية في سياقها التاريخي، فمن تابع الفيلم يحسب أن تلك المحاولة نزلت فجأة على الساحة السياسية والتاريخية لم يكن لها ما يسبقها أو ما يليها. أما المسألة الثانية فهي ربط تلك المحاولة الانقلابية بالأزمة القطرية الراهنة باعتبار أن هذه الأزمة الأخيرة امتداد لتلك المحاولة في تجاوز لوقائع العقدين الماضيين وفي تناقض مع تصريحات لكبار المسؤولين القطريين والتي كانت تشيد بالعلاقات السعودية – القطرية أو الإماراتية – القطرية.

عبر هذا الفيلم والكثير من التقارير والبرامج تحولت قناة الجزيرة إلى حالة بائسة من وسائل الدعاية والتعبئة، التي تتجاوز الحدود الدنيا للموضوعية والمهنية وحتى معايير المنطق والعقل. أما ميثاق الشرف المهني فيصبح مجرد نكتة سمجة في مضمار لا يحتمل النكات.

رامي الخليفة العلي

(عكاظ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *