(السيد).. ذاك جزء مني افتقدته!

بقلم / ناهد عبدالرحمن الراشد الحميد

في 1 يناير الماضي أصابتني حالة من فقدان التوازن، لا أسقط ولا أستقيم، أغرق ولا أغرق.. أشعر بالماء المالح يغمر حلقي ولكني أتنفس وعيناي مفتوحتان على اتساعهما من هول الحقيقة!

الحقيقة الكبرى التي يعرفها الجميع ولا أحد يرغب في تصديقها بأي شكل كانت.. رحيل من نحب عن الحياة قبلنا.. والدي الغالي.

أوصانا رحمه الله أكثر من مرة وكان بكامل صحته “لاتجرجروني في هالمستسفيات لو أصابني شيء” والحمدلله لم نضطر إلى ذلك، دخل المستشفى على قدميه بكامل قواه الجسدية والذهنية إلا من ألم عنيف داهمه قبل ذلك بشهر ولم تنفع معه المسكنات. فكان ماكان..

فجأة،،الدرجة الرابعة من المرض الخبيث ! اسمٌ على مسمى لم يمهله أكثر من 34 يوما أخيرة.

هي سنة الحياة. ولكنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان بقلب كبير وعقل أصغر من أن يدرك حكمته في خلق الألم الذي مهما حاولنا تلطيفه بصفات مثل ابتلاء، أجر، طهور، إلا أنه يبقى مشتعلا في  جسد المريض، ولهيبه يلفح محبيه، فتتيه عقولهم في اتخاذ التدابير من هنا وهناك، ويتسارع نبض قلوبهم بالدعاء لرفع المصاب وطلب المعجزات..

ولا ندرك رحمته في إنهاء ذلك الألم حين  تقول مشيئته جل وعلا وسنته كلمتها الفصل.  فكانت.. آخر كلمات والدي الغالي رحمه الله: الحمدلله الحمدلله الحمدلله.

نعم، الحمدلله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، على الخلاص من الألم، على حياة هنية و كريمة، وربما على بداية حياة جديدة أجمل من هذه الدنيا.

مشاعر وأفكار صعبة تتلبس كل من يفقد حبيب. وأحيانا غبية. أتساءل مثلا: أيهم أرحم في حال كون المريض غير ممكن شفاؤه. هل نريده أن يبقى لنا رغم ألمه ومعاناته أم يرحل إلى الرحمن الرحيم ويرتاح؟ كلاهما مر، ولا خيار لنا أصلا.

و على كل حال، أريد أن أعرّفكم على أبي.. ليس لأن كل فتاة بأبيها معجبة، ولكن لأن كل من عرفه أعجب به وأحبه وذكره الطيب في القلوب والعقول.  ولأنه شخصية ملهمة و مدرسة في فن الحياة نتعلم منها. فمثله لا يرحل

هو رجل أقل ما يوصف به أنه كان أقرب إلى الملائكة من البشر. ملامحه مرتاحة ومريحة، وابتسامته طفولية. جمع بين قلب أخضر مطرز بخيوط الذهب محب للحياة والناس. ذاق مرارة العيش في زمن روى لنا عنه قصصا أشبه بالخيال لنا الآن، وعاش رغد الحياة التي بناها بيده حجرة حجرة…

لم يعتمد على أحد غير وعيه وتقديره لكل ما هو جميل، من كلمة في كتاب تثير فكره أو ابتسامة طفل يلتقطها بكاميرته أو سجادة عجمية حرص على اقتنائها مع أول راتب شهري تسلمه.  لذلك لم يستسلم لصعوبات زمنه وحرص على العلم والمعرفة في رحلة بدأت بلوح الكتاتيب ووصلت إلى لوح الآيباد. فرغم الثمانين – كما كان يقول للتعبير عن التقدم في العمر- لم يكن يرضيه أن يكتفي بالفرجة على مثل هذا الجهاز بين أيدي أبنائه وأحفاده. فصار رفيقه المسلي الذي يعوضه عن مجالسة أعز أصدقائه “الكتب” بعد أن ضعف نظره.  كان معروفا عنه شغفه بالقراءة وثقافته الواسعة في التاريخ والأدب والفلسفة، وأيضا بالمعلومات العامة والغريبة. ولا أنسى هوايته الثانية التي اشتهر بها كثيرا، التصوير الفوتوغرافي. فقد حمل الكاميرا قبل زمن “الإنستقرام” بكثير.. في الخمسينيات الميلادية والتي لولاها لضاعت أحداث وأعمار كثيرة دون توثيق. ورغم أنه تنازل عن هوايته قبل سنوات لأخي، إلا أنه كان لا بد أن يصادف ما يثير حماسته ويستخدم الجوال أو الآيباد للقطة عابرة.

حصل على الشهادة الجامعية في الثلاثين من عمره . “فكُه الله” كما كان يقول من دراسة الطب، إذ كان ضمن مجموعة مبتعثة إلى القاهرة. ولكنه تراجع عنها و تخرج لاحقا مع أول دفعة تخصص محاسبة من جامعة الرياض آنذاك. وحينها فقط وجد نفسه مستعدا للزواج بابنة خاله التي أحبها واحتواها واحترمها بالقدر الذي تحلم به كل النساء… وكونا أسرة من ابنتين وأربعة أولاد، أسرة سعيدة ولله الحمد بجميع المقاييس.. واستطاعا معا أن يمسكا العصا من المنتصف بين العطاء والمنع والتدليل والحزم.

تعلم اللغة الإنجليزية بقدر مناسب لإيمانه بأهميتها، وفي مرحلة ما حرص على تعلم الإيطالية ليتمكن من التحدث مع أصدقاء إيطاليين.

كان سباقا في توفير الأفضل والأحدث لنا. والألطف أيضا.. فأول معلومة في الإتيكيت تعلمتها منه عن طريقة استخدام الشوكة والسكين في الأكل (كان المرشحون للابتعاث الخارجي يُلحقون بدروس في الإتيكيت قبل مغادرتهم).

و بقدر ما أحب وأعطى أسرته الصغيرة، كان يعمل كل ما يستطيع لإسعاد من حوله من أقارب ومعارف. كان كريما ومتواضعا يتلذذ بتناول طعام إفطار بسيط مع بعض العمال على أرض جرداء، بنفس الدرجة التي يحققها عشاء مع أبنائه على ضفاف بحيرة سويسرية.

كان يستمتع بأن يعطي ولا يأخذ، يصل الصغير قبل الكبير، وكنت أستكثر أن يبادر هو بزيارة بعض الأشخاص الذين عليهم هم واجب زيارته بحكم سنه ومكانته.. لكنه كان يتبع مشاعره فقط  دون أن يعكر صفوها بجمع وطرح.

و مثلما اعتمد على نفسه في بناء حياته، كان يحب أن  يخدم نفسه بنفسه داخل وخارج المنزل ليس عن بساطة وتواضع فقط، ولكن احتراما وتقديرا لنعمة الجسد والصحة التي تمكنه من ذلك.. فكان مثالا حيا على شباب القلب والعقل، والجسد أيضا فقد تفوق علينا نحن أبناءه بممارسة رياضة المشي يوميا طوال عمره ويضيف إليها السباحة صيفا.

ولا أزال أراه هنا وهناك. يتحرك أو يتسلل بهدوء ثم أكتشف أنه  صعد إلى غرفته وعاد بغرض ما في حين كان يستطيع إحضاره بإشارة إصبع فقط لأحدنا، أو تجده في مكتبه منشغلا بترتيب أوراقه في ملفات، أو جالسا على طاولة المطبخ، ينظم أدويته بطريقة مبتكرة تسهل عليه استخدامها.

ومن صفاته الجميلة، أنه كان إيجابيا بالفطرة، دون فلسفة. أكيد كان مثل أي إنسان لا بد أن تنتابه مشاعر حزن أو غضب. يتألم ويتغير لون وجهه، ولكنه لم يكن يقف طويلا عند هذه المشاعر أو يجعلها تتحكم به. كان يبلعها ويمضي. كنت دائما أتأمل ملامحه بعد عودته من المقبرة مودعا صديقا أو قريبا رحل، فأرى هدوءا وإيمانا وقبولا بما لا يمكن تغييره.

أما عن الرقي، فيكفي أن أقول هل تعرفون رجلا من هذه الصحراء ومن ذلك الزمان يفكر ويصمم بنفسه شعارا يحمل الحرف الأول من اسمه مع اسم زوجته. وهل تعرفون أحدا مثله يحرص على فتح باب السيارة لابنته ويأخذ من يدها أكياس التسوق ليحملها عنها؟ كنت أرفض ويصر. ومن دون كلام يقول أنه هكذا يجب أن تُعامل المرأة.

كان مميزا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لذلك أطلق عليه أحد الأقرباء في صغره لقب “السيد” ولحقتنا هذه التسمية فترة من الزمن فكان يتم تعريفنا ببنت السيد أو ولد السيد. ومع أني في صغري كنت أتساءل لماذا يسمون أبي بالسيد؟ إلا أن للكلمة نغمة جميلة فهمت منها أن لها معنى جميل.

 

هناك الكثير والكثير مما يمكن أن يقال عنه ويُستلهم منه. فمدرسته تبقى مفتوحة بذكراه  وطيب أثره عند من عرفه. لذلك سأشاركم بنسختي من ورقة عن أهم عوامل النجاح التي وزعها علي وأخوتي في عام 1995 وكان محتفظا بها قبل ذلك بثلاثين عام إثر قراءة ما، أي قبل ظهور وانتشار موجة التفكير الإيجابي والتنمية الذاتية كما هو الحال الآن.

اللهم كما أكرمته في الدنيا، أكرمه و هو بين يديك. اللهم، إنه كان من عبادك المحسنين فضاعف له حسناته، وارفع درجاته وأسكنه الفردوس الأعلى واجمعنا به وكل من يحب في جنات النعيم. آمـيـن..

 

 

 

5 ردود على “(السيد).. ذاك جزء مني افتقدته!”

  1. يقول منيره الشقري:

    الله يرحمه ويغفر له ويرزقكم السلوان.
    مقال رائع رسمته صورة شخص أروع

  2. يقول عمر الطعيمي:

    يعجزلساني أن أصف العم ابو صلاح دمعة العين وانجرح القلب ولا نقول الا رحمه الله واسكنه فسيح جناته اتذكر كل مازرته احاديثه الشيقه والقصص الجميلة التي يذكرها لي وماذكرتيه اختي غيض من فيض اسأل الله ان يجمعكم به في الفردوس الاعلى مع النبيين والصدقين والشهداء

  3. يقول د. أمل عبدالله الطعيمي:

    قرأت المقال مرات ومرات وماذا عساي أن أقول وأنا شاهدك على كل كلمة
    كتبت هنا . اسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن يجعله سيداً في جنات النعيم
    كما كان في الدنيا .

  4. يقول جراح:

    ما أجمل هذا الوفاء وهذا الإحساس وهذا البر، عسى الله أن يغفر له ويرحمه ويرزقك أختي ناهد الصبر والسلوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *