الإعلام .. والتعامل مع المصادر غير الموثوقة

الخبر الصحافي دون إسناد يفقد قيمته. الأساس في الخبر هو النقل. وهذا يعني أن الصحافي ليس مصدرا للمعلومة. الصحافي واسطة لنقل الأحداث والمعلومات ذات الصلة للمتلقي. الصحافي النزيه والموضوعي لا يتدخل في تأليف المعلومة التي يجب أن ينقلها قدر الإمكان، كما هي دون رتوش وإضافات حسب اجتهاده وميوله. وضمن سلسلة المقالات هذه حول الإعلام العربي، عرجت فيها على الإسناد، وكيف أن النقل من الآخرين حول سيرة الرسول العربي الكريم وأحاديثه وممارساته، كان قد تحول إلى فن وعلم قائم بذاته، له أصوله وقدسيته لدى الناقلين والباحثين أيضا. عالم الإعلام ليس عالم الحديث. هذا أمر لا أظن أختلف فيه عما لدى قرائي الكرام من مواقف وأفكار. بيد أنه عندما يصبح النقل أداة لغياب المصداقية وتزييف الحقائق وتزوير المعلومة، عندها علينا التوقف صامتين لوهلة ومن ثم مفكرين، كيف لنا أن نوقف ما أستطيع تسميته طوفان الكذب وعدم المصداقية، الذي يسبح عالمنا المعاصر فيه. وأعود إلى مستهل المقال، وأكرر أن الخبر يجب أن يستند إلى النقل، وأن النقل يجب أن يستند إلى مصادر موثوقة ورصينة وصحيحة، وأن الصحافي عليه أن يعرف فن معالجة النقل. ولكن كيف نعالج النقل من الآخرين اليوم، ونحن نعترف كلنا، تقريبا، بأننا نسبح في طوفان من المعلومات أغلبها لم يتم التحقق منها، أي أنها قد تكون مزيفة؟. لقد دخلنا عالما لا يشبه أبدا العالم الذي ظهر فيه علم الإسناد لدى العرب عند تعاملهم مع الأحاديث الشريفة. عالمنا اليوم لم يعد يؤمن بقدسية المعلومة وقدسية نقلها من شخص إلى آخر. وفي عالم اليوم، الذي صارت فيه المعلومة ترافقنا في حلنا وترحالنا وتغزونا من خلال أجهزتنا الخوارزمية “الرقمية”، لم نعد نملك نعمة الركون إلى زاوية لدراسة وتطبيق الأسس التي وضعها العرب للتحقق من مصداقية الأحاديث. ولم نعد نملك أيضا الوقت الكافي لتطبيق المعايير التي يضعها علماء التواصل وأساتذة الصحافة لغرض تقييم وقياس مصداقية المعلومات التي نحصل عليها. وأكثر الأمور إرباكا في عصرنا الخوارزمي هذا، هو تشابك- وكثير من الأحيان زوال- الخيط الذي كان يفصل بين النقل الصحيح والنقل المزيف أو غير الصحيح. وما يزيد الطين بلة، أن الناس، بصورة عامة، لم تعد تكترث للناقل والوسيلة، العنصرين المهمين في عملية التواصل بين البشر. وقد تنطبق على وضع الإعلام ونقل المعلومة في عالم اليوم المقولة العربية الشهيرة: “اختلط الحابل بالنابل”. والفوضى هذه، كما بينت في رسالة الأسبوع الماضي، مصدرها الأساس يكمن في التخبط في عملية الإسناد. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو، إن كان يجوز للصحافي نقل معلومة غير موثقة، أي أن الصحافي لا يستطيع التحقق من مصداقيتها، ولأننا قلنا إننا نسبح في طوفان من المعلومات المزيفة، فكيف للصحافي السباحة في هذا اليم الجارف؟. بعض وسائل الإعلام الرصينة وضعت أسسا علمية، استنادا إلى أبحاث أكاديمية، لكيفية التعامل مع نقل معلومات قد تكون غير صحيحة مع طرائق لكيفية معالجتها ونقلها. بمعنى آخر، استخدام الصحافيين لفنون الإسناد وعلومه بطريقة صحيحة يساعدهم على السباحة في الطوفان الذي تطرقت إليه. ولقد وضعت الوسائل الإعلامية النزيهة تعليمات بعشرات الصفحات لإرشاد صحافييها إلى الأسس الصحيحة للنقل من مصادر لا يمكن التحقق من المعلومات التي تأتي بها. ولبعض هذه الوسائل الإعلامية، لجان ووحدات خاصة، فيها من الاختصاصيين والخبراء من الحقول ذات العلاقة، ترشد الصحافيين والمحررين وتعلمهم كيفية التعاطي بصورة سليمة مع معلومة لا يمكنهم التحقق منها، ولكن عليهم نشرها. ودخلت الثورة الخوارزمية وبقوة لغربلة المعلومات من نصوص كتابية أو شفوية أو مصورة. هناك اليوم برمجيات كرتونية تساعدنا على معرفة إن كانت صورة ما ثابتة أو متحركة، مزيفة أو صحيحة. ومع توافر إرشادات وتوصيفات لمساعدة الصحافيين في التعامل مع المصادر غير الموثقة، أو التي لا يمكن التحقق منها، صار بإمكان القراء والمستمعين والمشاهدين، بعد بذل جهد بسيط، فرز الصحيح عن غير الصحيح. كتبت هذا المقال بعد دراسة قمت بها لمعرفة إن كانت لوسائل الإعلام الرئيسة أي إرشادات أو توصيفات لمساعدة صحافييها على التعامل الصحيح مع المعلومة التي ليس في الإمكان التحقق من صدقيتها، أو كيفية النقل من وسائل التواصل الاجتماعي التي تغزوها المعلومات من كل حدب وصوب. قد يتكهن بعض القراء الجواب لما أثرته من سؤال في الفقرة أعلاه، ولكن لنترك مناقشته للأسبوع المقبل.

ليون برخو

(الاقتصادية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *