ألا موت يباع فأشتريه ؟!

البخل لا يعرف غنيا أو فقيرا، ولا يفرق بين أمير أو (سواق حمير)، فالبخيل بخيل مهما كان، فهو أجاركم الله إذا استحكم (وخـر عن طريقه)، فها هي مثلا الملكة (الزبيث الأولى) التي حكمت إنجلترا ما بين (1558 ــ 1685) اشتهرت بالبخل إلى الحد أنها لا تستحم إلا مرة كل ثلاثة أشهر، ولكن لا أدري عن فلسفتها تلك، هل هو اقتصاد بالماء يا ترى؟!، ولكن كيف يكون هذا والأنهار تجري تحت قدميها ؟!، إذن ماذا كانت ستفعل لو أنها عاشت في الربع الخالي؟!، أكيد أنها لن تستحم من أول يوم لولادتها إلى آخر يوم لوفاتها.

وإليكم نموذج آخر، فتذكر لنا كتب التراث أن (الحسن المهلبي) الذي عاش في القرن الرابع الهجري كان شاعرا فقير الحال و(معترا) ــ مثلما يقول إخواننا الشوام ــ وطالما ضاق ذرعا بفقره البائس المدقع، إلى درجة أنه قال بيتين من الشعر، اللذين أعتبرهما أنا هما قمة في اليأس لم يسبقه إليهما أحد، وذلك عندما قال:

ألا موت يبـاع فأشتريـه
فهذا العيش ما لا خير فيه
إذا أبصرت قبرا من بعيد
وددت لو أنني فيما يليه

ودارت الأيام، وإذا (المهلبي) يرتقي منصب الوزارة، بل وأصبح كأنه الحاكم بأمر الله وأقبلت عليه الدنيا، وأتته أسباب النعمة، فاستيقظت في نفسه نزعة التشفي من أيامه الغبراء، فأسرف في اتخاذ مظاهر الرفاهية والترف لنفسه فقط على نحو لم يسبقه إليه سابق.

وقد قالوا إنه كان إذا أراد أكل شيء ، مما يتناول بالملعقة، وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين معلقة من الزجاج، فيأخذ من الغلام ملعقة يأكل بها من ذلك اللون مرة واحدة، ثم يدفع الملعقة إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ معلقة أخرى، فيفعل بها ما فعل بالأولى، حتى ينال الكفاية وكان يفعل ذلك لئلا يعيد الملعقة إلى فمه مرة ثانية !.

الخلاصة، إن ملذات الدنيا أنسته الحياة ومن عليها من الفقراء لأنه كان بخيلا (لا يشخ على الجرح)، والنتيجة أنه قتل من شدة تقتيره على الناس ولم يجد هناك حتى قبرا يباع لكي يشتريه، فقد تركوا جثته بالفلاة لتأكلها الضباع.

وما دمنا بهذا الصدد فيحدثنا (أبو حيان) التوحيدي أنه كان في (أصفهان) رجل مكفوف البصر، يطوف بالأحياء ليسأل الناس إحسانا، ومرة جاد عليه رجل برغيف، فما كاد يمسكه في يده، حتى دعا للرجل المحسن بقوله:

بارك الله عليك، ورد غربتك!.

فعجب الرجل من هذا الدعاء، وسأله:

من أدراك أني غريب، وأنت لا تراني، فتعرف من هيئتي ما يدلك علي ؟!

فأجاب الأعمى: الآن لي هنا عشرون سنة، ما ناولني أحد من أهل البلد رغيفا صحيحا، فلا ريب عندي في أنك غريب! ــ انتهى.
هل تصدقون أن الكلاب وهي الكلاب، تعرف وتميز الرجل الكريم من البخيل ؟!، فهي إذا رأت الكريم هزت له أذنابها، وإذا رأت البخيل كشرت في وجهه أنيابها، وهذا هو ما أكده لي رجل من أهل البادية أثق برجاحة عقله، وضرب لي أمثلة كثيرة ليس هناك مجال لذكرها.

مشعل السديري

نقلا عن “عكاظ”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *