الرأي , خربشة ومغزى

ديانات فارسية .. المزدكية

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

ظهرت الديانة المزدكية في فترة حكم الساسانيين لفارس، التي انتابها نصف قرن من تدهور الأحوال والفوضى والفقر. حينها برز على مسرح الأحداث مزدك بن موبذان المولود في فارس، وهو كاهن زرادشتي إصلاحي. مزدك هذا كان متمسكا بعقيدة الرؤية الثنائية للوجود وهي الخير والشر والظلام والنور، وكان ملتزما في حياته بالتنسك وتحريم أكل اللحوم.

مزدك يعتقد أن الخير ثمة إمكان لزيادته، والشر لا بد له أن ينقص، وَهذا يتمّ بالحراك الاجتماعي. منح هذا التفكير مزدك الطاقة لحشد الأتباع لتحقيق ما يطمح إليه من عدالة اجتماعية ومساواة، ساعيا لتقليل سلطة الكهانة التي لها نفوذ على الطقوس الدينية والتعبد، وهي بفهم مزدك لا تحتاج تسلط كهنوتي.

المزدكية عُرفت في دعوتها بأنها تميل إلى توزيع وإشاعة الثروة بين الناس، بما في ذلك تقسيم الممتلكات الكبيرة والعامة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الناس؛ حيث شكلت هذه الأفعال اختلال في الموازين والأعراف السائدة آنذاك. أما تعاليم مزدك بالنسبة للنساء فتنص بالإباحية والمشاركة في ملكية النساء لإقربائهن الذكور. وكان سائدا آنذاك أن الأثرياء يحتفظون بحريم كُثر، وهو احتكار غير عادل في نظر مزدك
(مصطلح حريم اشتهر استخدامه خلال السلطنة العثمانية ويعني مجموع الزوجات والجواري اللاتي يملكهن السلطان).

الفردوسي وهو الشاعر الفارسي الذي عاش فترة (1020-935) م يذكر في كتابه الشاهنامة (ملحمة الملوك)، أن كسرى الثاني برويز والذي أتى زمنه بعد مزدك، يقول الفردوسي عن برويز: “أنه كان يحتفظ باثنتي عشر ألف محظية”. ولئن كان هذا الرقم مبالغا فيه إلا أنه لا بد أن العدد كثير الذي سوغ لمزدك حسب معتقده الدعوة إلى إلغاء مفهوم الحريم، وتسريح المحظيات ليشترك فيها الآخرون.

قبل ثلاث سنوات من موت قباذ، وهو الحاكم السابع عشر في سلالة الملوك الساسانيين أي في عام 528م، استسلم قباذ حينها أمام ضغط أعداء مزدك، فسمح لابنه الثالث ووريثه كسرى الأول أن يمكر بمزدك فيدعوه إلى مأدبة على شرفه، وانتهت المأدبة بذبح مزدك وأتباعه الخُّلصْ.

بعد هذه الحادثة تم تجريم المزدكية وذُبَّح المزادكة في طول بلاد فارس وعرضها، وجلس قباذ الذي سمح بهذا التطور في الأحداث بالتفرج على مذبحة المزادكة التي يبدو أنها كانت أكثر فضاعة ودمارا كمذبحة دينية ذاك الزمن. بل فاقت مذبحة بإرثولوميو في باريس والتي أتت بعد أكثر من ألف سنة حدثت بإرثولوميو عام 1572م. وذُبح فيها 30 ألف بروتستانتي على يد السلطات الكاثوليكية بأوامر من الملك الفرنسي شارل التاسع ووالدته خوفا من سطوة وانتشار البروتستانتية.

لم تعش المزدكية لوقت طويل بعد ذلك، وفنت داخل البوذية في آسيا الوسطى بيد أن بعض أفكارها قد أثرت لاحقاً في الحركات الاجتماعية
في العصر الإسلامي، ومنها ثورة الزنج التي انطلقت من جنوب العراق البصره عام 869م، ولمدة أربعة عشر سنه إِبَّان الدولة العباسية وكان قائدها فارسي. وجيش الزنج معظمه من الأفارقة والأحباش، وفلول من القبائل العربية. وقد استمرت مواجهة الزنج قرابة أربعة عشر سنة للقضاء عليها.

ختاما؛
المزدكية والزرادشتية والمانوية ديانات ذات أثر تراثي وعقائدي في المخيلة الفارسية، بعضه امتد وأوجد ثغور ليبث صداها، لمن لم يستقيم بالهداية على نهج النبوة، ويبتدع ضلالات في الإسلام. وبهذا ظلت بلاد الفُرْس حاضنة لكثير من الفرق الباطنية التي شقت طريقها بين المسلمين وبذرت طلاسمها وطقوسها وأذاها، وهذا لا يخفى على الباحث والمتتبع لنشاة الفرق وروادها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *