الرأي , خربشة ومغزى

ديانات فارسية .. الزرادشتية إحداها

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

الديانات الفارسية تعددت، أقدمها المجوسية التي تمرحلت عبر التاريخ القديم حتى ظهور زرادشت، الذي سُميت ديانته المجوسية “الزرادشتية”، وهي حديث هذا المقال. بعدها نتعرف على ديانة المانوية والمزدكية.

الزرادشتية نشأت من معتقدات هندو-إيرانية قديمة، وكان الهندو-إيرانيون عبارة عن شعوبٍ تنتسب إلى أعراقٍ تُسمى مجموعة هندو-أوروبية. هذه الشعوب طبيعتها رعوية شبه مُرتحَّلة، تتنقل في السهوب الجنوبية لروسيا شرق الفولغا ووسط آسيا. شكلت تلك القوميات تراثا دينيا قوميا بقيت عناصر منه إلى وقتنا الحاضر في الزرادشتية والهندوسية.

آمنت تلك الشعوب بقدسية النار والماء، وعبدوا مجموعة من الآلهة الطبيعية كالأرض والسماء والشمس وغيرها، وكانوا يعتقدون بأن العالم مقسم إلى سبع مناطق أكبرها الذي يسكنه البشر تتشاطره ثنائية بمثابة آلهة، وهي: آشا: هو جوهر القانون الطبيعي وهو أيضا النظام والحقيقة ويقف على تعارض منه، ودروغ : الذي يمثل الفوضى والكذب.

بل هنالك تعدد للآلهة يشمل ثلاثة آلهة كبرى أخرى وهي: فارونا: إله القٓسٓم وسيد الماء، وميثرا: إله العهد وسيد النار، وآهورا مازدا: الذي يعني حكمة الرب.

زرادشت – كما في مفهوم الفُرْس – نبي أحدث ثورة في الديانة الإيرانية القديمة، وشخصيته أحاطها كثير من الضبابية حول مكان وزمن ميلاده، وقد يكون ولد في خوارزم او سجستان، قيل أن ابوه ميديا(احد القبائل الآرية الفارسية)، وأمه ربما من راغا (الريّ) وهي مدينة قديمة في آسيا الوسطى.

كان زرادشت يدعو لدينه في الشرق باكتريا (أفغانستان)،وعادة ما يشار إليه أنه عاش ما بين القرنيين السابع والسادس قبل الميلاد، وهناك دراسات حديثة تشير إلى تاريخ أقدم بكثير وتحديدا إلى ما بين القرنيين الخامس عشر والحادي عشر قبل الميلاد.

كتب زرادشت سبع عشرة ترنيمة شعرية، جُمعت في ما يعرف باسم “غاثا”، وجاء فيها أنه يعد نفسه ليصبح كاهنا في عمر الخامسة عشرة. ووفقا للتراث الزرادشتي فإن ديانة زرادشت تقوم على ثنائية الخير والشر والظلام والنور، ولكل منهما آلهة تمثله، وهذه بنية ثيولوجية أو ما ورائية تنتهي بالانتصار المحتوم للخير على الشر. ولهذا الزرادشتية تعترف بوجود إله أعظم واحد رغم الثنائية هذه. أوصى زرادشت البشر بالمسؤولية الفردية في الحياة الطاهرة، والاهتمام بالآخرين مما يمكن أن يختصر في الدستور الأخلاقي خير النوايا خير الكلام خير الأفعال.

زرادشت يبدو أنه بَشّرَ بأن مُخلصا سيأتي من بعده ليقود الحرب النهائية على قوى الشر، ويُعيد السلام والانسجام والنعيم إلى العالم، ويؤمن أتباع زرادشت بأنه في نهاية الأمر سيأتي ساوشيانت، الذي سيولد من بذرة مقدسة من النبي نفسه أي زرادشت. هذه البذرة محفوظة بمعجزة في قاع بحيرة عندما يحين الوقت ستستحم عذراء في البحيرة، وتحمل ببذرة النبي ثم تلد طفلاً سيُصبِح مخلص البشرية.

ووفقا للثيولوجيا الزرادشتية رغم أنها ليست تعاليم زرادشت بل من أتباعه،أن العالم سيبقى ستة آلاف سنة من بدايته إلى نهايته.

النار عند الزادشتية مقدسة على أنها رمز للنور، ونور الرب، وحارس النار هو مقدس، لذا الصلوات تقام أمام النار إضافة إلى الحرص على إبقاء النار مشتعلة بشكل دائم في المعابد الكبرى.

أنشئت معابد النار في جميع الأراضي الساسانية (إمبراطورية فارسية) حيث تقام صلواتهم الجماعية، وينشدون تراتيلهم المقدسة أمام النيران الدائمة. يقول المؤرخون إن بعض هذه الأماكن في القرى الفارسية تحولت إلى أماكن عبادة وصلوات لبعض الطوائف. هاجرت معتقدات الزادشتية إلى الغرب، ومرت بتطورات ووصلت إلى الرومان.

كان الزرادشتية لا يدفنون موتاهم، ولا يحرقونهم؛ لأنهم يؤمنون بأن هذه الطقوس تلوث الأرض والنار؛ لذا كانوا يضعون الأجساد الميتة مكشوفة في (الدخمة) أبراج صمت؛ حيث تعمل الطبيعة على التخلص من أجسادهم مع مرور الزمن. بيد أن هذه العادة هُجرت في الوقت الحالي بين الزرادشتية الإيرانيين فأصبحوا يدفنون موتاهم ولقد أسلم كثير من الزاردشة مع قدوم الإسلام.

يتمتع الزرادشتي في إيران بحرية العبادة، ولهم معاملة اليهود والمسيحيين كأهل كتاب؛ لأن الآفيستا كتاب الزاردشتية يحظوا بتقدير في إيران. تتركز الزادشتية في إيران غالبا في مدن يزد وكرمان وطهران، ولهم لهجة تسمى داري وهي غير اللغة الفارسية الرسمية المستخدمة.

الإرث الزرادشتي في الديانة الزرادشتية، كما ذُكر تبنت معتقد الثنائية الغيبية (الميتافيزقية) أي الخير والشر والظلام والنور، وقد يكون هذا من الديانات الأولى التي أخذت هذه الصبغة. يقول الباحثون إنه حتى نهاية السبي الذي شمل اليهود في بابل كان (يٓهوه) مجرد إله قبلي لبني اسرائيل، وأن تحرير اليهود على يد كورش الأكبر واتصالهم بالتعاليم الزرادشتية هو ما جعل هذا الآله اليهودي يأخذ صبغة عالمية في نصوصهم اللاحقة؛ حيث إن أول توراة كُتبت كانت في بابل.

وأيّاً كان الأمر فمن المرجح عند بعض المؤرخين، أن التعاليم الزرادشتية حول تاريخ العالم من الخلق إلى القيامة كان لها سبق زمني لتعاليم اليهود وكتابتهم. ويبدو كذلك أن الزرادشتية أشارت إلى المسؤولية الإخلاقية للأفعال الصالحة والسيئة، وفكرة المخلص هي كذلك في هذا السياق.

يقول تشارلز زايهنر الذي شغل منصب أستاذ كرسي للديانات الشرقية بجامعة أكسفورد: “من اللحظة التي اتصل فيها اليهود بالإيرانيين تبنوا المعتقد الزاردشتي للحياة الفردية بعد الموت، والتي فيها ينعم المرء بثواب أو يعذب بعقاب. ولقد اكتسب هذا الأمل الزرادشتي أساسا أقوى خلال الفترة ما بين العهد ألقديم والعهد الجديد، ومع حلول زمن المسيح الذي تصدى اليهود له، ومنهم الفريسيون وهذه التسمية فسرها بعض الباحثين بأنها تعني الفارسيين أي الطائفة الأكثر انفتاحا على التأثير الفارسي”. وهكذا يبلغ الظن أن هناك تلاقي بين الإرث الزاردشتي مع كاتبي الديانات الكتابية القديمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *