الرأي

بريطانيا تدفن أشهر علامة تجارية في تاريخها

حبيب عبدالله

صحفي، عمل سابقا في الوطن، الشرق الأوسط، وصحيفة الوفاق الإلكترونية، ومجلة المجلة، ومجلة الفيصل.

بعد ظهر يوم الإثنين 19 سبتمر 2022م، ودعت بريطانيا أشهر علامة تجارية في تاريخها الحديث تمثلت في شخصية الملكة إليزابيث الثانية، ففي أثناء حياتها التي امتدت لسبعة عقود، مثلّت صورتها ورمزيتها علامة تجارية عالمية لتسويق بريطانيا وترويج ثقافتها واقتصادها. فتسعة أيام منذ إعلان وفاتها كانت درسًا في نظرية القوة الناعمة لثقافة بريطانيا، قنوات عالمية نقلت الحدث يومًا بيوم بدءًا من نقل الجثمان من قلعة بالمورال في الريف الاسكوتلندي إلى قصر هوليرود هاوس ومن ثم إلى كاتدرائية سانت غايلز في إدنبرة، وصولًا إلى قصر باكنغهام في لندن عاصمة إنجلترا، تقاليد عريقة محكمة خلقت الهيبة والاحترام للمملكة المتحدة أمام العالم، وعززت من الاهتمام الدولي لها.

والحقيقة أن مراسم دفنها التي لا تنسى بحضور أكثر من 2000 شخصية عالمية شملت مائة شخصية بين ملك ورئيس دولة وحكومة، وسلطت فيها كل قناة ووسيلة إعلامية على هذا الكوكب الضوء على أخبار وفاتها والتقاليد العريقة لترتيبات جنازتها وتشييع جثمانها، زادت من قيمة هذه العلامة التسويقية والتعريفية لبريطانيا في جميع أنحاء العالم إلى درجة تسابق زوار من جميع دول العالم إلى المزايدة على أساور المعصم الخاصة بقائمة الانتظار المخصصة لإلقاء النظرة الأخيرة على النعش قبل دفنه وذلك على موقع المزادات الإلكترونية إيباي eBay الذي تعهد بدوره بإزالة كل الإعلانات رغم وصول سعر السوار إلى 80 ألف جنيه إسترليني. في حين باع الموقع نفسه العديد من الأساور في الأيام الأخيرة مقابل 51 ألف دولار أميركي، وبيعت أساور أخرى بأسعار أقل وأكثر من ذلك.

الصور والفيدوهات لمراسم تقديم العزاء التي قدمها قادة العالم لأفراد العائلة المالكة داخل كاتدرائية وستمنستر آبي وأصوات الأجراس والترانيم وعزف النشيد الوطني وعزف الموسيقى الجنائزية وسط الطراز القوطي التاريخي القديم للمبنى، كل ذلك جعلنا نشعر وكأننا نشاهد فيلمًا سينمائيًا متقنًا للصوتيات والديكورات والملابس من إخراج أفضل السينمائيين في هوليوود، مشاهد سينمائية عززت من قيمة هذه العلامة البريطانية. جعلتنا نتخيل فيلمًا تاريخيًا أو مشاهد من العصور الوسطى، إرث قديم ومراسم وتقاليد مرتبة ومصممة بدقة عالية لا تسمح بهامش صغير من الخطأ.

وما قصة تحول الملكية البريطانية إلى علامة تجارية عالمية بسبب الملكة إليزابيث الثانية إلا قصة تستحق الدراسة والبحث بالنسبة للمهتمين والمتخصصين في تسويق الدول والشخصيات والثقافة والسياحة. عادة هناك قائمة سنوية أو تصنيف دوري لأفضل العلامات التجارية أو الأعلى قيمة، سواء في بريطانيا أو على مستوى العالم، هذه القائمة أو التصنيف لم تدخله الملكة إليزابيث في حياتها، لكنها تعد أبرز علامة تجارية في تاريخ بريطانيا الحديث وبرأيي أنها تجاوزت شخصيات أخرى مثل شكسبير الذي ينحصر في الجامعات والثقافة في حين تتجاوزه الملكة إليزابيث لكافة شرائح وفئات الناس والأعمال، فهي تمثل العلامة والتسويق غير الملموس والتأثير غير المباشر الذي تكرس عبر أكثر من 70 عام، وهي سنوات جلوسها على العرش كملكة للمملكة المتحدة. ناهيك عن التسويق المباشر المتمثل في حق استخدام الشعار الملكي في المنتجات الذي لا تتوفر أرقام حقيقية أو قياس لتأثيره المباشر.

فاليوم بعد وفاتها تواجه أكثر من 600 شركة في بريطانيا خطر الحرمان من حق استخدام الشعار الملكي، وعليها الانتظار حتى الحصول على موافقة من الملك الجديد تشارلز الثالث لتتمكن من استخدام الشعار الملكي على منتجاتها المتنوعة مثل القرطاسية، والتذكارات التي تحمل صورة الملكة إليزابيث الثانية، وكذلك الأغلفة والمباني والمركبات، إضافة إلى الإعلانات. وهذا الحق أو الترخيص يمثل دعمًا مهمًا ووسيلة لتسويق المنتجات والأعمال، فهذا الدعم الملكي لا يأتي عبثًا أو لمجرد التسويق ولا تجني منه الملكة أي أرباح، وإنما هو بمثابة الاعتراف بالمهارة والحرفية، وشهادة ضمان للجودة المقدمة على شكل منتج مباشر أو خدمة غير مباشرة مثل الرعايات والزيارات. هذا النوع من الدعم يحقق أرباحًا عالية سنويًا، بسبب تهافت السياح داخل وخارج بريطانيا. وهناك مئات الكيانات التجارية والفنية والمنظمات الأخرى التي تستخدم رموز الملكية في منتجاتها مثل صور الأسلحة أو حتى استخدام كلمة Royal، واستخدام مثل هذه الرموز والكلمات يتطلب تقديم طلب خاص. كشفت بعض التقديرات أن القيمة المالية للملكية البريطانية كعمل تجاري تجاوزت 67 مليار جنيه إسترليني.

لطالما كان هناك نقاش يتكرر وخاصة في فصول وأندية الجامعات حول الجدوى من النظام الملكي أو ماهية الدور الحقيقي للملكية في بريطانيا، عندما كنت طالبًا في بريطانيا حضرت بعض هذه النقاشات التي تركز على الجانب الاقتصادي غالبًا، الجمهور منقسم بشكل لطيف وواعي بين رافض بسبب الصرف عليها من أموال الضرائب لا سيما ونحن نسمع هذه الأيام عن التقديرات الخيالية لتكلفة جنازة إليزابيث، وبين مؤيد يرى أن الملكية البريطانية تساهم في إنعاش وترويج الاقتصاد البريطاني بشكل مباشر وغير مباشر والشواهد كثيرة جدًا. وهي نقاشات لأجل النقاش فقط ودعم ممارسة حرية التعبير عن الرأي.

عمومًا فقد حوّلت الملكة إليزابيث الثانية الملكية البريطانية إلى علامة تجارية عالمية، بل هي في شخصيتها لم تكن مجرد “ملكة لا تحكم” وإنما مثلت علامة تجارية أصيلة ساهمت في تعريف العالم بالأمة البريطانية وببريطانيا. فمجرد جنازتها شدت انتباه العالم إلى بريطانيا، وتشييع جثمانها عرّف العالم بتقاليد العصور القديمة العريقة وهي مراسم معروفة ومدروسة جيدًا لكنها منسيّة، وكانت جاهزة للخروج للعلن في وقت كهذا حيث أن المراسم نفسها جرت تمامًا عند تشييع جنازة الملك جورج السادس والد إليزابيث في فبراير 1952م، ولكنها لم تنقل عالميًا لظروف التقنية والتواصل آنذاك الذي يختلف عن اليوم كليًا.

جنازة الملكة عززت من تعريف سكان العالم إلى عالم آخر، إلى النظام الملكي، إلى رموزه وتاجه وصولجانه وشعاره وأسلحته، عرّفت سكان العالم إلى أفراد العائلة المالكة، وإلى عالم الكومنولث الكبير، إلى سطوة التقاليد العريقة. عرفت العالم بجمال الطبيعة من سهول وجبال وسهول وغابات في وسط اسكوتلندا، وبعراقة التاريخ القديم في عاصمة إنجلترا لندن المتمثل في المباني والكنائس والنظام الصارم المنضبط.

والآن بعد جنازة الملكة وانتهاء فترة الحداد وعودة الأعلام ترفرف كاملة، ينتظر الملك تشارلز الثالث العمل الكثير من أجل الحفاظ على هذه العلامة التجارية وعلى تقاليدها وبقائها، وكذلك ينتظره سقف متأرجح من التوقعات المعقدة في الحفاظ على الوعي بالملكية البريطانية بين ملايين السكان من دول الكومنولث البعيدة، مجموعة دول تشكل أمة كانت متوحدة خلال فترة والدته الراحلة إليزابيث الثانية لمدة 70 عاما.. فهل تبقى كذلك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *