الرأي , خربشة ومغزى

السَّجْع .. بلاغة فطرية

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

ذكر أحدهم أن استخدام السَّجْعُ اللفظي ارتبط بمرحلة التقهقر والضعف التاريخي، فتأملت هذه المقولة فكان هذا الإدلاء:
أولاً :
يُعدُّ السَّجع من مميزات البلاغة الفطرية فهو يجري على ألسنة البشر في أكثر اللغات بصورة فطرية ومضطردة في أمثالهم ، وحكمهم ، وخطبهم لما فيه من موسيقى رائعة لا ينكر دورها في التأثير على العقول والقلوب، بل هو علامة من علامات رقة الأسلوب ونصاعته ، ورونقه وجزالته، وكلما كانت الألفاظ المسجوعة ذات رقة ورنين، ومعني كريم، وأناقة وحسن ترنيم، فإن النفس الإنسانية تشتاق إلى سماعها، والأذن ترتاح إلى إيقاعها.

ثانياً :
المفهوم اللغوي للسجع كما يقول ابن منظور في لسان العرب؛ سَجَعَ يَسجَع‘ سَجـعًا أي استوى واستقام، وأشبه بعضه بعضاً. والسجع هو الكلام المقفى، والجمعُ أسجاعٌ وأساجيع وسَجَّعَ تَسـجيعاً؛ بمعنى تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن.

ثالثاً :
بلغت السجعة في القرآن الكريم من البلاغة منتهاها، الذي كان فيه زمن الفصاحة أقصاها، إلى حد الإعجاز البياني، وتستطيع أن تتبين هذا الإعجاز في جميع آياته، وكلماته ، فكل كلمة قد وضعت في مكانها، وكل حرف قد صادف موقعُه. أقرأ مثلاً سورة الرحمن واسترسل في قراءتها على سجيتك، وامعن نظرك في جمال عرضها، وتناسق أفكارها، وتسلسل معانيها، ثم أرجع البصر كرتين كيف بُـدئت، وكيف خُتمت، وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت، وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطأ أولاها لأخراها.

رابعاً :
السجع عند الجاحظ (159-255)هـ أنه لون من ألوان التعبير الجميل، لذا فقد اهتم به كثيراً وأفرد له في كتابه البيان والتبيين بعض الأبواب، نوه فيها بأثره في الكلام، وتأثيره في النفوس وأورد نماذج شتى له، عرض في ثنايا حديثه عنه إلى أمور متصلة به، وأبرز الآراء المختلفة في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وعلل كراهية الناس للسجع بأنه كان أسلوب الكهانة عند العرب القدماء ولغة وثنيتهم، يحاولون به تضليل الناس والتأثير عليهم فقال؛ “وكان الذي كره الأسجاع بعينها، وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة أن كهانة العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رَئـيًّا من الجن مثل حازي جهينة، وشق, وسطيح وأشباههم، وكانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول أحدهم؛”والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعةٌ ببقعاء لقد نفَّر المجد بني العُشَراء ، للمجد والسناء”، فوقع النَّهى في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العلة زال التحريم”

خامساً :
يقول ابن رشيق القيرواني (390-463)هـ ؛ وكان كلام العرب كله منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم الأخلاق وطيب أعراقها، وصنعوا أعاريض جعلوها موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، فلما استقر العرب، واجتمعوا بعد تفرق، وتحضروا بعد بداوة، واجتمع لهم من سمات الحضارة وثقافة الفكر، وتنظيم الحياة، ما جعلهم يشعرون بحاجتهم إلى كلام مهذب، وأسلوب رشيق، وفكرة مرتبة، فكان النثر المسجوع وسيلتهم في ذلك.

وقال في تعريف السجع انه لون فني يعمد إلى ترديد قطع نثرية قصيرة، مسجعة ومتتالية، تعتمد في تكوينها على الوزن الإيقاعي أو اللفظي، وقوة المعنى، فمن مميزاته أنه يأتى :
محكم البناء، جزل الأسلوب، شديد الأسر، ضخم المظهر، ذو روعة في الأداء، وقوة في البيان، ونضارة في البلاغة. لغة السجع تمتاز بشديدة التعقيد، كثرة الصنعة، كثرة الزخارف في أصواتها وإيقاعها لذلك فالنثر المسجوع يأتي في مرحلة النضج.

ختاماً؛
السجع ليس إفراز تقهقر تاريخي، بل احتضنته العرب قبل الإسلام، وهو اُسلوب أدخله القران وجوامع الكلم من قول سيد الأنام، بل كان في العوالي من القرون الأُولى في التاريخ وببطنِها ذروة الدولة الأندلسية، ويبقى هناك في القديم والحديث من يتنطع ويتنمق سجعا في التلفظ، لا يلامس الذوق وفيه أثقال على السامع وهذا مذموم.

رد واحد على “السَّجْع .. بلاغة فطرية”

  1. يقول قاسم البريكان:

    السجع بلاغة فطرية.. تحت هذا العنوان استطاع الكاتب احمد الحسين ان ينصف هذا اللون من الكتابة، وأثبت أنةفن فطري مثل فطرة الشعر لدى الموهوبين وهو فعلاً فن جميل وما ورد منه في القرآن الكريم لتأكيدعلى علو مكانة هذا اللون الادبي المحبب..
    مقالكم يا ابا عبدالله جمع الفائدة والمتعة على حدٍسواء ولم ينسَ الكاتب ان يبين ان بعض الكتابة السجعية تكون ثقيلة على السمع بسبب تكلف الكاتب لهذا النوع من الادب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *