الرأي , خربشة ومغزى

المشروع الصهيوني .. إرثٌ أُوربِّيٌ وحضانةٌ أمْرِيكيةٌ

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

المشروع الصهيوني إرث أوربي وحضانة أمريكية، عنوان عريض له تفصيل يطول، نتناوله بمقالين متتابعين. وتمهيدا له، نذكر نبذة تاريخية عن ولادة الفكر الصهيوني الذي أُنبتت بذرته في أوربا نهاية القرن الخامس عشر ميلادي ببطء، حينها كان العالم ميداناً للتنافس الأوربي فى حقل الكشوف الجغرافية للحصول على أكبر عدد من المستعمرات، والسيطرة على طرق التجارة الدولية عبر المحيطات، وفيها تم اكتشاف القارة الأمريكية.

اليهود في هذه المرحلة التاريخية حالهم بدأ بالتبدل بعدما ذاقوا التضييق فيما سبق من دول أوربا، حيث أصبح لهم دور جديد في خدمة الدول الاستعمارية، وهذا أحدث توافق بينهما، بل توظيف للأهداف البعيده عند الأوربيين فمثلا في عام 1649م أخذ الإنكليز على عاتقهم إنجاز المشروع اليهودي بالعودة إلى فلسطين وتمثل بإلاعلان الذي تضمن النص التالي: “إن أمة إنكلترا وسكان هولندا سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب لتكون ميراثاً لهم إلى الأبد”. مع العلم أن إنكلترا كانت خالية من اليهود تماماً منذ نهاية القرن الثالث عشر؛ لأن الملك “إدوارد الأول”كان قد طرد اليهود جميعاً، وحرّم عليهم العودة إليها أو الإقامة فيها، غير أن “كرومويل”الذي قام بثورة برجوازية في إنكلترا وأعلن النظام الجمهوري بين عام 1599-1658م تقرب إلى الديانة اليهودية بعدما تبنى العقيدة “البيوريتانية” أو التطهيرية وهي مذهب مسيحي بروتستانتي تم استفادة اليهود منه بعدما دعموه واخترقوه.

وهكذا سمح كرومويل لليهود بالعودة إلى إنكلترا والإقامة فيها؛ لأن الوضع مؤاتي تماماً لاحتضان “الفكرة الصهيونيه” التي أخذت زخماً بأوربا أواسط القرن السابع عشر، لاستيطان اليهود في فلسطين. إنكلترا حينها كانت ترى أنها لا تستطيع أن تلعب دوراً هاماً في تحقيق المشروع الصهيوني وهو بالتالي محقق لأهدافها الاستعمارية إلا بالسماح لليهود بالعودة إلى إنكلترا ، وهذا مافعله كرومويل تواصلت رعاية فكرة مشروع الكيان الصهيوني على أعلى المستويات بلا انقطاع، ومع نمو الرأسمالية في أوربا وازدياد حركة الاستعمار والاحتكار على نطاق واسع، تزايد المضي في مشروع الدولة اليهودية إلى نهايته، وأخذت سياسة الدول الاستعمارية تتحول عن مرحلة الملاحقة والاضطهاد والقتل ضد اليهود إلى مرحلة جديدة من التعاون مع اليهود، لتحقيق فكرة المشروع الصهيوني تحت سلطة ورعاية بريطانيا الدولة الاستعمارية الأولى.

وهكذا أخذت فكرة الحركة الصهيونية تظهر إلى الوجود عبر قرون ثلاثة من الزمن تم إنباتها من متطرفي الأشكنازيم بتربه أوربية توافقت مع أهداف استعمارية توسعية، ولدفع كيانات يهودية خارج أرضهم لتحقيق مصالح كلا الطرفين.

الصهيونية ماذا تعني؟.. هي اسم مشتق من لفظة صهيون، وهي كلمة عربية كنعانية الأصل عُرفت قبل ظهور موسى بزمن طويل، والموقع الجغرافي لصهيون فيه نزاع تاريخي شأن ذلك شأن أسماء المواقع والمدن التي وردت في التوراة مُحرفة عن أصلها وما يتصل بمواقعها الجغرافية الحقيقية.

أما الحركة الصهيونية التي ظهرت في العصر الحديث، هي حركة سياسية عنصرية متطرفة تستغل العاطفة الدينية في سبيل تحقيق المشروع الصهيوني لجمع اليهود من أنحاء العالم في وطن قومي واحد. وفي رأى آخر، الصهيونية هي حركة رأسمالية استعمارية صرفه تحالفت مع الدول الاستعمارية ضمن تبادل مصالح معينة، وقد وقع اختيارها على فلسطين تلبية لمتطلبات الاستعمار البريطاني فتحالفت معه، ومواكبة ذلك مع الفكرة التي تقوم على اعتقاد الإنسان اليهودي بأسطورة أرض الميعاد التي تمتد من الفرات إلى النيل حسب مرويات التوراة. على الرغم أن يهود العالم اليوم لا تربطهم أية رابطة بأولئك اليهود الذين عُرفوا بقوم موسى، يضاف إلى ذلك أن هذه الحركة العنصرية ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا نشاط بريطانيا والدول الاستعمارية الأخرى التي كانت ترى أن حماية مصالحها الاستعمارية يعتمد على تحقيق المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين .

وقد بدأ سياسو الدول الاستعمارية ينشطون بدفع اليهود في أوربا إلى قبول هذا المشروع، فمنذ منتصف القرن السابع عشر ميلادي استمر نشاط تلك الدول بدون توقف حتى يومنا هذا، لدفع تطور الصهيونية مما انتج ظهور ما يدعى بالحركة الصهيونية إلى الوجود.

درج الباحثون والكتاب على اعتبار الحركة الصهيونية حركة يهودية وتقتصر على العنصر اليهودي فقط، وقد ظهرت الحركة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نتيجة لأثر اليهود بالحركات القومية التي ظهرت في أوربا.

ومؤسس هذه الحركة هو اليهودي النمساوي”تيودور هرتزل” الذي ألف كتابا اسمه “الدولة اليهودية” وترأس المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م في مدينة “بازل” سويسرا، غير أن الواقع يخالف هذا الاعتبار؛ لأن هذه الحركة ظهرت أولا في تفكير السياسيين ورجال المال في أوربا على أثر توسع حركة الاستعمار في العالم منذ منتصف القرن السابع عشر لوجود هذه الفكرة كالتالي :
في عهد “اوليفر كرومويل 1599-1658م”نشط هو وأتباع المذهب البيوريتاني في دعم فكرة استيطان اليهود في فلسطين، وعندما حل القرن التاسع عشر ظهر في بريطانيا اللورد “شافتسبوري” الذي احتل مكانا خاصا في الحركة الصهيونية غير اليهودية، إذ بدأ هو في تعبئة النخب السياسية البريطانية لتنفيذ هذا المشروع كأمنية لبريطانيا كلها. حتى على صعيد الكنيسة كانت مواكبة لهذا المدّ مما دعا أحد الكتاب أن يصف الحال “بالاتحاد الغريب بين سياسي الإمبراطورية وبين نوع من الصهيونية المسيحية الأبوية عبر الأجيال اللاحقة”.

دأب “الأنجلو ساكسون “على رعاية فكرة المشروع الصهيوني طوال قرون تقديرا منهم لأهميتها الخطيرة في صياغة استراتيجيتهم العالمية. يعتبر “اللورد بالمرستون 1784-1865م” مدافعا كبيرا عن فكرة الاستيطان بحماية بريطانيا العظمى، وتبعه كثير من السياسيين وذلك ليتوفر للإنكليز السيطرة على الشرق لمواجهة منافسة الدول الاستعمارية الأخرى، ولتتمكن بريطانيا من إدراة المواصلات بالكامل. أما “تشارلز هنري تشرشل” 1807-1869م الضابط الإنكليزي فقد كان له دور محوري في الاتصال باليهود، دفع بالرأي أن الاستيطان يبدأ بتحرير سوريا وفلسطين مبكرا ووضعهما تحت الحماية البريطانية، ومن ثم يقوم اليهود بدور المستوطنين لحماية المصالح البريطانية.

منذ القرن الثامن عشر بدأ بعض الكتاب والمفكرين يوجهون أنظار الحكومات الأوربية إلى إمكانية الاعتماد على توطين اليهود في فلسطين، من هؤلاء “البرنس دي لينيه” الذي قدم كتابا إلى إمبراطور النمسا “جوزيف الثاني” 1797م، أشار فيه إلى “وجوب إصلاح شأن اليهود وإعادتهم فلسطين “.

كذلك كان “نابليون بونابرت ” قائد الحملة الفرنسية على مصر 1798-1801م قد تأثر أيضا بمثل تلك الآراء، فاجتذبته فكرة استيطان فلسطين معتمدا على توطين اليهود فيها لتحقيق مشروعه في إنشاء إمبراطورية فرنسية في الشرق. وبعد أن تمكن من احتلال مصر شرع عام 1799م في غزو فلسطين، فوجه نداءا إلى جميع اليهود في العالم يستحثهم على الانضمام تحت لوائه لإعادة بناء “مجد إسرائيل الضائع في القدس “واصفا إياهم بأنهم “الورثة الحقيقيين لفلسطين” ، لكن محاولة نابليون هذه انتهت بالفشل التام بعد اندحار جيشه أمام أسوار عكا عام 1799م، فاضطر بعد ذلك إلى مغادرة مصر والعودة إلى فرنسا. إن مشروع نابليون نبه الحكومة البريطانية سيدة الدول الاستعمارية آنذاك إلى خطورة هذا المشروع على مصالحها فيما لو أقدمت إحدى الدول على تنفيذه، لذلك أخذت الجدية فوجهت أنظارها إلى المبشرين بالفكرة الصهيونية من يهود بريطانيا لتحقيق المشروع تحت رعايتها. كان على رأس هؤلاء اليهودي الثري “السير موسى مونتفيوري”الذي كان طليعة المتحمسين للحركة الصهيونية ومن المقربين إلى ملكة بريطانيا الملكة فكتوريا، فاتجه مونتفيوري إلى “محمد علي باشا” والي مصر بعد أن سيطر محمد علي على سوريا وفلسطين بالإضافة إلى مصر وعرض عليه ” أن يؤجر اليهود مائة أو مائتي قرية من قرى شمال فلسطين لمدة خمسين عاما، مقابل أجرة تدفع تدريجيا على أن تكون هذه القرى حرة من كل مانع أو محذور، ولليهود الحق في بيع الحاصلات في أي بلد من بلدان العالم دون أية قيود عليهم في ذلك “.

ومن الغرابة بمكان أن يوافق محمد علي على طلب مونتفيوري مع العلم أن محمد علي صديقا لفرنسا وليس بريطانيا، التي وقفت في وجه مشروعه بإقامة دولة قوية في المنطقة. وتعهد محمد علي “بالترخيص لليهود في شراء أي مساحة يستطيعون إيجادها في سوريا”. لعل محمد علي كان بذلك يريد إرضاء بريطانيا للسكوت عن مشروعه. لكن خسارة محمد علي باشا لسوريا بأكملها وانسحاب جيوشه من سوريا عام 1841م كان ضربة لمشروع مونتفيوري ومؤيديه، لكن ذلك لم يثن دعاة المشروع الصهيوني عن مواصلة العمل لتحقيقه.

المشروع الصهيوني بعد فتح قناة السويس عام 1869م عهد الخديوي إسماعيل حاكم مصر، وجهت بريطانيا اهتمامها نحو بناء قاعدة في فلسطين لحماية قناة السويس، وذلك بتنفيذ المشروع الصهيوني تحت رعاية وحماية الحكومة البريطانية. وهذا ما يؤكده السير ونستون تشرشل 1874-1965م السياسي المشهور والذي يعتبر آخر بناة الاستعمار البريطاني حيث يقول في مذكراته: ” إذا أتيح لنا في حياتنا وهو ما سيقع حتما أن نشأ نشهد مولد دولة يهودية ليس في فلسطين وحدها بل على ضفتي نهر الأردن معا تقوم تحت حماية التاج البريطاني وتضم نحوا من ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود فإننا سنشهد وقوع حادث يتفق تماما الاتفاق مع المصالح الحيوية للامبراطورية البريطانية”.

تقدمت لجنة الاستعمار التابعة للبرلمان البريطاني بتقرير عام 1907م إلى وزارة المستعمرات باسم لجنة “كامبل/بيترمان” تقترح فيه على الحكومة البريطانية “، أن تقيم حاجزا بشريا قويا وغريبا على الجسر الجوي الذي يربط آسيا بافريقيا ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث تقوم في هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة”. وبذلك أصبح على بريطانيا أن تنتظر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م لتحتل فلسطين بالقوة وتنطلق في تنفيذ وعد بلفور”، بإقامة الوطن القومي لليهود.

ومن كل ما تقدم نستطيع القول إن الدول الاستعمارية الأوربية وعلى رأسهم الحكومة البريطانية عملوا جميعا بنشاط لم يتوقف لتأليف “حركة صهيونية غير يهودية ” قبل أن يفكر اليهود بإنشائها بحوالي قرنين من الزمن. وتبين لنا أيضا كيف تحولت الدول الأوربية بعد منتصف القرن السابع عشر الميلادي من ملاحقة اليهود بالقتل والحرق والمصادرة والطرد في المناطق التي ولدوا وعاشوا فيها إلى دول تعطف على اليهود، وتسعى إلى النظام الرأسمالي وازدياد حركة الاستعمار في العالم، وأصبحت مناطق شاسعة من اسيا وأفريقيا خاضعة لدول مثل بريطانيا ،هولندا،اسبانيا، البرتغال.

كل ذلك دفع اليهود وأقنعهم بقبول المشروع الصهيوني الاستعماري، وذلك لخدمة الدول الاستعمارية وبخاصة بريطانيا العظمى وحماية مصالحها وقد وافق ذلك مصالح اليهود وعملوا لهذا الهدف. وللإشارة ليس كل طوائف اليهود تبنوا الفكرة الصهيونية، بل هنالك معارضون لها. وإلى مقال لاحق عنوانه ” أمريكا.. و احتضان المشروع الصهيوني”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *