الرأي

أرجيلة الشام.. ثقافة تحاصر غير المدخنين

حبيب عبدالله

صحفي، عمل سابقا في الوطن، الشرق الأوسط، وصحيفة الوفاق الإلكترونية، ومجلة المجلة، ومجلة الفيصل.

ما أن تخرج من مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمان، حتى يستقبلك مجموعة من سائقي سيارات الأجرة، يهرولون نحوك وفي يد كل واحد منهم سيجارة، يضع يده خلف ظهره حتى لا تؤذيك سيجارته وبالوقت نفسه يتحدث معك وهو ينفث دخانًا كريهًا بوجهك. تختار أحدهم وما أن تصعد إلى سيارته حتى يخبرك بالقانون رقم واحد بالأردن “دخن يازلمة.. التدخين مسموح بالتاكسي”. وهو أول قانون تتعرف إليه في رحلتك.

هذا المشهد يقودنا إلى الحديث عن ظاهرة التدخين بالأردن وعموم دول الشام، أعتقد أنني لم أسمع أو أشاهد مثل هذه الظاهرة في جميع الدول التي زرتها من حول العالم سواء الفقيرة أو الغنية من وسط آسيا إلى أوروبا وصولًا إلى المكسيك، أصبح الوضع مع التدخين كارثة استثنائية بصورة بشعة بفعل البشر المدخنين أو البشر الذين يسكتون عنها، وبكل تأكيد بفعل القانون الذي لا وجود له. كارثة ربما لا يشعر بوجودها وبخطرها أهل البلد، وإنما يلاحظها ويشمئز منها السائح أو الأجنبي كونه دخيلًا جديدًا على هذه البيئة الاستثنائية. حتمًا هناك أسباب اجتماعية ونفسية واقتصادية أدت إلى شيوع هذه الظاهرة، ولكن لا يعني ذلك قبولها والاستمرار بالسكوت عنها.

من خلال زيارتي لأماكن كثيرة ومتعددة في عمّان من فنادق ومطاعم ومقاهٍ ومتاحف وميادين وفضاءات عامة، واستخدام سيارات الأجرة أحيانًا وإدمان المشي الطويل بالشوارع، أكاد أجزم بأن الوضع كارثي وينبغي على الأردنيين عدم السكوت عنه، ليس للمحافظة على صحة المدخنين ولا لحفظ أموالهم، وإنما لحماية الآخرين منهم، سواء غير المدخنين أو الأطفال الصغار أو الرضع الذين تحتضنهم أمهاتهم باليد اليسرى، بينما يسحبن أنفاسًا طويلة وقصيرة من الأرجيلة باليد اليمنى. أنواع متعددة من التبغ الضار وجديد السجائر الإلكترونية تحت مسميات جذابة ولطيفة مثل العنب والنعناع والتفاح، في حين كل هذا أبعد ما يكون عن هذه المنتجات الصحية المفيدة.

يخرج المواطن الأردني من غرفته المجاورة لك بالفندق وبيده سيجارة، ويدخل المصعد معك وتتفاجأ بأن السيجارة ما زالت بين إصبعيه، صورة صغيرة وبسيطة لكنها تمثل ما وصل إليه مستوى الكارثة حتى أصبح الوضع عاديًا جدًا ولا وجود لأي حرج، وهذا مشهد حقيقي بدون أي مبالغة.

تدخل مطعم الفندق الصغير عند موعد الإفطار الساعة 7 صباحًا، وتستقبلك علامات “ممنوع التدخين” الجميلة وكأنها فن تشكيلي بالنسبة لغير المدخنين، إلا أن هناك من يُصر على إزعاجك بنشر الرائحة الكريهة فور انتهائه من تناول فطوره بدون الشعور بمن حوله ولا حتى الإحساس بأولاده على الطاولة نفسها، لا يستطيع الصبر حتى مغادرة المطعم. لم أشاهد هذا التصرف إلا من قبل أردنيين، بينما وفي الغالب يخجل السياح والأجانب من التدخين في أماكن مثل المصاعد أو ممرات وردهات ومطاعم الفندق التي يوجد بها الأطفال حتى وإن غابت علامات “ممنوع التدخين”.

بحلول الساعة الثامنة تخرج من الفندق ماشيًا إلى وسط البلد وهي مسافة 3 كيلومترات تقريبًا، تتكرر مشاهد التدخين غير الطبيعية في كل مكان يصادفك في طريقك، يدخنون وهم في محلاتهم ومكاتبهم وحتى في طوابير الانتظار. تتوقف عند بائع العصير للتزود بفيتامين سي من البرتقال الطبيعي، تتفاجأ بأن البائع يعصر البرتقال وهو يدخن، بحلول التاسعة تتوقف للدخول عند أحد ناشري الكتب، فتجده منهمكًا في فهرسة الكتب وإعادة ترتيب الأرفف وشفتاه تضغطان على سيجارة وصلت إلى نهايتها وكادت تحرق فمه. مع الساعة العاشرة تدخل مقهى شعبيًا للاستراحة وقراءة الصحف المحلية، تستقبلك جماهير أرجيلة التبغ ذات الدخان الكثيف، وما يسهل الوضع عليك هو الجلوس قرب النافذة وشرب الشاي الجيد وسماع أغنية أصيلة ورؤية سكان حقيقيين من كبار السن بملابسهم أو طريقة حديثهم ولطفهم. ومع حلول الساعة الحادية عشرة تكون قد وصلت إلى وجهتك “وسط البلد”، تتجول بين المحلات والأسواق وما يلفت انتباهك وقوف كثير من أصحابها عند الأبواب وهم يدخنون ويرمون بأعقاب السجائر إلى الشارع الأمامي فتسقط أمامك مباشرة، فالأرصفة ضيقة جدًا ومليئة بمخلفات السجائر وبقايا اللبان. عمّان مدينة نظيفة مقارنة بالعواصم العربية الأخرى، لكن أغلب ما تلاحظه من قمامة هو علب السجائر الفارغة وبقايا أعقابها. تصاب بالدهشة والصدمة معًا وأنت ترى عاملين وطباخين بمطاعم وهو يدخنون أثناء تحضير الأكل.

بحلول الساعة الثانية عشرة، تأخذك أقدامك إلى أحد المتاحف، تطلب تذكرة من موظف الشباك ليخرج إليك دخانًا كثيفًا ونتنًا من الفتحة الصغيرة، وبعد تلاشي الدخان يظهر وجه الموظف وسيجارته؛ فيعطيك تذكرة أغلى بسبعة أضعاف لأنك لست أردنيًا وهذا التسعير معترف به سياحيًا.

بعد التجول قليلًا وبحلول الثانية بعد الظهر تختار أحد المطاعم المشهورة للغداء وسط البلد، تصعد للدور الثاني حيث المكان المطل الجميل كما في الصور وفي تعليقات الزوار عن الأكل اللذيذ والطازج، ستلاحظ فور دخولك غيومًا متقطعة من الدخان تصعد إلى السقف، حيث يختلط في مثل هذا المكان دخان السجائر بدخان الأرجيلة لتتشكل هذه الغيوم الخانقة. أتوقف دقيقة مستغربًا لماذا يصعب فصل مكان تقديم الطعام عن مكان خدمة الأرجيلة احترامًا لغير المدخنين على الأقل. ليكن الطعام داخل الصالة، والأرجيلة في تراس أو بلكونة أو صالة أخرى، خلال أسبوع كامل لم أجد سوى مطعم واحد “سفرة” خصص صالة لغير المدخين، عندما تتجول في دول أخرى مثلا الإمارات تجد غالبًا أن تقديم الأرجيلية يكون في صالة منفصلة عن صالة تقديم الطعام.

لا أعرف كيف يستمتع الناس بالأكل والتدخين معًا، ولا أعرف كيف يدخن الرجل ومعه أطفاله، ولا أستطيع أن أعرف كيف تفقد المرأة أنوثتها وطبيعتها الجميلة بشفط هذه الكمية من التبغ، ويستحيل أن أعرف كيف تتجرد أم من المسؤولية والعاطفة وهي تدخن الأرجيلة ورضيعها في حضنها أو أمام أطفالها. كيف يسهل على عائلة أن تضر أطفالها بإحضارهم إلى مثل هذه الأماكن، ليست أضرارًا صحية فحسب، بل هي أضرار تربوية جسيمة، فهذه البيئة المريضة بالتدخين حتمًا ستجعل من الأطفال ذكورًا وإناثًا مدخنين محتملين أو مشبعين بالتدخين.

في الحقيقة التدخين أمر مقبول لمن ابتلي به وعندما يكون في حدود المعقول وفي الأماكن المعقولة وبعيدًا عن الأطفال كما نرى في دول كثيرة تحترم الإنسان غير المدخن حيث منعت التدخين حتى في حانات الخمور كما في أغلب دول أوروبا وأميركا وغيرها، إلا أن طريقة تعاطي التبغ كما شاهدت في الأردن وعند أهل الشام عامة وخاصة بين النساء وأمام الأطفال وفي المناسبات والاجتماعات العائلية، والتدخين في كل وقت وفي كل مكان وفي كل موقف باستثناء المسجد وربما المقبرة -وأشك في ذلك-، هو ما يجعلني أصف الوضع بالكارثة.

وهنا في السعودية، نحن أمام بوادر مثل هذا الوضع من خلال انتشار مقاهي ومطاعم الشيشة ومحلات بيع التبغ في كل مكان، وبعض مقاهي الشيشة الجديدة في بعض الأحياء تعمل 24 ساعة، وسوف يصبح الوضع كارثيًا ما لم تكن هناك قوانين صارمة لحماية غير المدخنين، ولحماية المراهقين والأطفال، وقبل كل ذلك لمكافحة هذه الثقافة السيئة، ففي أكثر من مرة أشاهد أمًا مع أطفالها في مطعم يقدم الشيشة، أو مراهقين ومراهقات في لاونجات تقدم الشيشة. لست مع منع التدخين نهائيًا وكأنه جريمة؛ ولكني ضد هذا الانفتاح غير الحضاري والذي يعد تأخرًا وليس تقدمًا. يستطيع المدخن وبكل حرية شراء ما يريد من منتجات التبغ ثم تعاطيه في مكانه الخاص، سيارته أو استراحته أو سطح منزله، أو في غرفته وملحق بيته.

نستثمر فصل الصيف لنسافر إلى جدة أو الدمام، ولكن نتتفاجأ بأن الفندق يُغلق المسبح الساعة الخامسة عصرًا لأنه يتحول إلى مكان لتقديم الشيشة، لذا يضطر الناس للسباحة في فترة الظهر الحارقة. تختار مطعمًا مشهورًا أو جيدًا برفقة عائلتك ولكنه يرفض دخول أولادك لأنه يقدم الشيشة. هل بات على غير المدخن أن يشعر بالعزلة في مجتمعه؟

أقترح على وزارة الصحة وجمعيات وعيادات مكافحة التدخين أن تتوقف عن صرف الأموال والوقت والجهد على حملات التوعية بأضرار التدخين ما لم يكن هناك قانون صارم لا يمنع التدخين فحسب، بل يحمي البشر غير المدخنين. ويكون مساندًا لجهود مكافحة التدخين والتقليل منه في الأماكن العامة. المقهى أو المطعم واللاونج هي أماكن عامة، وليست خاصة.

وأقترح على وزارة السياحة أن تفرض على المنتجعات والفنادق زيادة في غرف وأدوار غير المدخنين، وأن تشترط منع التدخين في الردهات والصالات، وأقترح على هيئة الترفيه منع التدخين في جميع فعالياتها المفتوحة والمغلقة، لتكون البيئة الصحية الخالية من التدخين عنوانًا بارزًا للترفيه، وكذلك وزارة الثقافة يجب أن تلتفت إلى هذه الظاهرة لأنني لاحظت أن فعالياتها المفتوحة لا تخلو من المدخنين الذين يتجولون بكل حرية بين الزوار من كبار وصغار. مثل ما نحاول ونخطط لتكون البيئة الأكبر للمملكة خالية من الكربون، لنبدأ بحماية البيئة الأصغر من الكربون، البيئة التي نعيش بها، فمحاربة التبغ أهم وأولى لأنه مصنوع من الكربون الضار.

إن كنا نؤمن بأن المدخنين أقلية، فليس من المنطقي ولا من العدل أن تَفرض هذه الأقلية الأنانية رغباتها على الجميع ولا أن تُفرض هذه الثقافة البشعة على المجتمع، فمن حق غير المدخنين الاستمتاع بزيارة لاونج أو مقهى وتناول العشاء وسماع عزف العود أو البيانو أو غناء الفنان أو حضور حفلة موسيقية في مكان صحي يخلو من التدخين، مصطحبين أولادهم بلا منع ولا خوف عليهم.

مثل أي مجتمع، نحن السعوديون نرتكب الأخطاء، ونقترف الذنوب، ونتمسك ببعض العادات السيئة، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن نتقبل مثل هذه الثقافة وكأنها أمر مسلم به، وانتشارها بهذا الشكل يجعلها ثقافة قبيحة ومريضة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

في عمّان وأنت تحزم حقائبك مغادرًا إلى المطار بعد نهاية رحلة نضال صامت ضد التدخين السلبي، تودعك لافتة إعلانية كبيرة على أحد جسور المشاة مكتوب عليها “لا تشارك الصمت.. حارب التبغ بكافة أشكاله”، ولكن في حقيقة الأمر فأنت تشارك الصمت بصمت مطبق وتستنشق التبغ بأشكاله كافة. ونسأل الله قانونًا عاجلًا صارمًا يحمينا نحن الأكثرية غير المدخنين.

كريكاتير صحيفة الرأي الأردنية

كريكاتير منشور في صحيفة الرأي الأردنية – 17 يوليو 2022م

4 ردود على “أرجيلة الشام.. ثقافة تحاصر غير المدخنين”

  1. يقول فراس حسين:

    يا زلمة والله صحيح اول مرة انتبه لحالنا. بس شوف تعرف انه ضرائب السجاير وصلت ل 25% من مدخول لميزانية يعني لو يبطلو تدخين ضرر للدولة

  2. يقول جلوي العيدان:

    اتفق مع المقال ترى صار اذا ما تدخن كانهم يقولون اجلس في بيتك لاتطلع. قبل سنوات قليلة كانت مقاهي الشيئة بعيدة في اطراف المدن ولها ناسها وزبائنها ولكن الحين في كل شارع وصار سهل الناس والمراهقين يدخنون

  3. يقول فيصل:

    التدخين افة العصر ويكون افة مضاعفة لما نشوفه في كل مكان نجلس فيه والمصيبة صرت مضطر أو اجلس في بيتك ولا تطلع
    نعم التحضر هو اتباع العادات الجميلة من المتحضرين الغربيين أو الشرقيين وليس مخالفتها

  4. يقول قاسم البريكان:

    لا شك ان التدخين عادة سيئة ومضرة وهو سبب رئيسي لكثير من الامراض واصبح بحارب في كل دول العالم وشركات التبغ تدفع تعويضات ضخمة لدعاوى ضدها.. كل هذا وأكثر معروف لكني كنت اتمنى ان لا تشخصن الظاهرة وتسميها( اردنية شامية) عادةًالحديث عن الدخان واضرارة يكون عاماً لا خاصاً كما فعلت واترك الخاص لاهل مكة فهم ادرى بشعابها حتماً غداً سينبري لك اردني او شامي وربما اكثر ويرد عليك وعلى بلدك من خلال اي مظهر سلبي ولن يعجزة البحث لننشغل ونصرف كتاباتنا الاصلاحية لمجتمعنا فهو اولى بنا من ان ننشغل بما وراء الحدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *