الرأي , خربشة ومغزى

الفُرْس واِقتِحام القُدْس .. التاريخ يُحدَّثنا

أحمد عبدالله الحسين

كاتب مهتم بالتاريخ والادب ومحاور علم الأنثروبولجيا

تمهيد لموضوع الفُرْس واقتحام القدس نذكر التالي: التاريخ تحدث عن سلسلة حروب بين الفُرْس والبيزنطيين طالت أزمانها، وكانت سجالاً له بواعثه في التحريض والندية وبسط الهيمنة، وتفاصيلها تطول، وهنا نأخذ فترة ما بين 602-628م التي تُعد سنواتها آخر سلسلة هذه الحروب؛ حيث أجهدت الطرفين وجغرافيتها امتدت في بلاد الفُرْس وما بين النهرين والأناضول وأرمينيا وسوريا وانتهاءً بمصر.

القرآن الكريم في سورة الروم، وهي سورة مكية أي قبل الهجرة النبوية، ذكر شيئًا عن تلك الحقبة الزمنية، وفي عام 613م تُوّجت بهزائم للبيزنطيين، وتمكّن الفُرْس من احتلال أرمينيا وبعض مناطق الأناضول، ولم يتمكنوا من القسطنطينية، وسيطروا كذلك على أعالي الساحل السوري بعد أن احتلوا أنطاكية، وكانت وجهتهم نحو بلاد الشام فأخذوا بطريقهم حمص ودمشق، ومن هناك اتجهوا للجليل في شمال فلسطين.

اقتراب الفُرْس من فلسطين أنعش اليهود لاعتقادهم بفكرة الخلاص التي سوف تكون على أيدي الفُرْس، وفكرة الخلاص هي حكاية نُسجت عن كورش مؤسس الدولة الأخيمينة، واحتفى بذكره الكتاب المقدس عدة مرات، وكورش هو الذي أمر بإعادة اليهود المنفيين في سبي بابل إلى فلسطين وبناء الهيكل، وهذا له ذكر في كتبهم ومروياتهم في الكتاب المقدس. وبهذا استقبل اليهود الغزاة الفُرْس بالتعاون معهم.

وبهذا تبدأ توالي الأحداث، ففي عام 614م ارتكب الفُرْس ومعهم اليهود مجزرة ذهب ضحيتها الكثير من سكان القدس المسيحيين والرهبان، بِما في ذلك أسرُهم لبطريرك القدس زكريا. ويُذكر أن الفُرْس لاحقًا أجبروا الرهبان تحت التعذيب أن يخبروهم عن مكان الذي كانت فيه خشبة الصليب الحقيقي التي كانت مخبأة فاستولوا عليها، وأن خشبة الصليب هذه في بعض المرويات تم اكتشافها في عهد أمّ الإمبراطور قُسْطَنْطِين الإمبراطورة هيلينا.

هيلينا هي أول من اعتنق المسيحية من أباطرة بيزنطة حينما زارت القدس حوالي عام 327م، وأمرت ببناء عدة كنائس ومنشأت خيرية، وفي أثناء الحفريات في موقع قبر المسيح حسب الموروث والمعتقد المسيحي عثر على هذا الصليب.

تذكر الروايات أنه بعدما دخل الغزاة الفُرْس القدس، أسرع الناس للاختباء في الكهوف وقنوات وخزانات المياه، والتجأت أعداد وفيرة منهم إلى الكنائس والأديرة طلبًا للنجاة، إلا أنه تمت ملاحقتهم بالسيوف والسهام لا يفرقون الجُند بين رجل وامرأة بل جمعوا من نَجا كأسرى وأخذوهم لفارس، وآخرون جمعوهم في بركة ماميلا غربي القدس على بعد مئات الأمتار من باب الخليل، وتم ذبحهم وأتبعوها بحرق الكنائس. وساق الفُرْس بعد الانتهاء من المجزرة عددًا كبيرًا من الأسرى إلى عاصمة الساسانيين طيفسون وهي المدائن في عراق اليوم.

الفُرْس كذلك جلبوا معهم إلى المدائن خشبة الصليب الحقيقي، وعهدوا به إلى شيرين زوجة الملك الفارسي خسرو الثاني التي كانت مسيحية. القدس خضعت لفترة لسيطرة اليهود أثناء الغزو الفارسي قيل إنها امتدت ثلاث سنوات.

بعدما تمكن الفُرْس من القدس فوضوا اليهود بها وأخذوا الأسرى إلى المدائن ومعهم بطريرك القدس زكريا، وعينوا موديستوس ليكون رئيس أساقفة في القدس.

الملك خسرو الثاني أمر بمعاملة الأسرى المسيحيين برحمة وأن تبنى لهم مدينة يستقرون فيها، وأطلق خسرو يد زوجته المسيحية شيرين في بناء كنائس في عاصمة ملكه، وكانت شيرين تغدق على الكنائس ورجالها المال الكثير. بل تمكنت شيرين من إقناع زوجها خسرو بأن يسمح لها بإيواء البطريرك زكريا وعدد من المسيحيين في قصرها، وسمحت كذلك في مناسبة عيد الفصح بأن يؤم المسيحيون بوابات قصر خسرو ويرتلون عندها الإنجيل، ويتلقون هدايا من الملك رغم أن خسرو كان معروفًا عنه تمسكه بديانته المجوسية.

المجزرة التي نفذها جُند الفُرْس في القدس بتحريض اليهود وأفعالهم، أثارت حفيظة وغضب المسيحيين المقربين إلى خسرو وهذا أدى في النهاية إلى التأثير على خسرو بإصداره أمر إخراج اليهود من المدينة المقدسة، وإنهاء الأعمال العدوانية على المسيحيين.

هكذا استمر الحال بعدها إيجابياً للمسيحيين إلى عام 624م التي فيها بدأت بيزنطة حربها المتكررة مع الفُرْس فانتصرت عليهم بعد بضع سنين، تكبدت فيها فارس خسائر موجعة،
والإطاحة بخُسرو الثاني حينما دبر رجال بلاطه وقادته اتفاقًا مع ابن خسرو قباذ، فتم قتل خسرو وتتويج قباذ ملكاً على عرش الفرس عام 628م وبتمكن البيزنطيين لاحقًا خف الاضطهاد عن المسيحيين.

ردان على “الفُرْس واِقتِحام القُدْس .. التاريخ يُحدَّثنا”

  1. يقول قاسم عبدالرحمن البريكان:

    فائدة المنشور ومتعتة لاشك فيهما فقد كنت وانا اقرأ كمن ركب مركبة اخذتني عبر التاربخ لمشاهدة احداثة الجسام وخاصة المتعلقة بالغزو والحروب وقد توقفت عند قرار الملك الفارسي( قورش) بإعادة الاسرى اليهود الذين اسرهم الملك البابلي نبو خذ نصر الى القدس ومن هنا ومن هذا التاريخ نقرأ بداية التأسيس لعلاقة متينة بين الفرس واليهود..
    احسن الله لك يا ابا عبداللة…

  2. يقول جلوي القحطاني:

    اخي الكبير والكاتب والباحث العظيم اخي احمد اسال الله ان يعطيك حتى يرضيك … انت قيمة علمية تستحق الاهتمام اكثر كم تعلمنا الكثير من خلال بحثك وجمال اسلوبك وذرابة تعبيرك … امتعتنا اخي الغالي 🌺

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *