خربشة ومغزى

التصيد في التراث .. آفة غرائزية

أحمد بن عبدالله الحسين

التراث هو ما حملته لنا الحياة من الماضي حتى بقى حيا لم يمت، تدب فيه مُحركات طالما صارعت جمود الأوراق والمطويات في الأرفف والدراسات. والتراث هو كذلك ما نعرفه وتوارثناه من مُثل وقيم ومضامين وأعمال، نشأت في الماضي القديم وشقت طريقها وسافرت إلينا عبر القرون، لتكون خلفيتنا وهويتنا ممتدة للحاضر ولا تفارق بصمتها المستقبل.

التراث البشري يشمل جميع الأمم ويأخذ بعدًا إنسانيًا، تترابط فية المشتركات في القيم الموروثة لديانات وثقافات وعادات وتقاليد، نلتقي معها حينما يُنادى بكليات مقاصد كما فصلها موروثنا، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

الحكماء والعقلاء يتفهمون التراث ويأخذون بأحسنه، ويتأملون ما فيه لصناعة الدورس والعبر حتى لا تتكرر الجهود والأخطاء.

أُمتُنا لها وفرة عطاء وامتداد حضاري عبر القرون، أثراها سلالات مبدعين من فلاسفة وحكماء ومفسرين ومحدثين وفقهاء ومؤرخين ولغويين، ومنهم كذلك أرباب صنائع نهضوا ببواكير العلوم في الطبيعيات والرياضيات والكيمياء والطب والفلكيات، وهنالك من ترك أثر في الشعر والنثر والغزل والحب والعشق والتصوف.

موروث أمتنا لا ينتاهى الحديث عنه سواء في تصانيفه وإبداعاته أو هَنَاته والآلآمه، كلُّ هذا له امتداده الزماني والمكاني اشترك فيه عرب واعاجم غير عرب، وشاركت فيه طوائف واصحاب مِلل وأهواء خاصه وباطنيات، كلهم ضمتهم جغرافية واسعة وحكاياتهم تماسّت مع تكوين الأفكار والمنطلقات.

التراث فيه الصحيح وما دونه، واخاليط اجتهادات تصيب وتخطئ وإشراقات إبداع، وجهود صاحبتها إخفاقات بل وشطحات بعض طالبي الوجد والهيام في الخلوات، فارقت ما يستحسنه العقل وسليم الذوقيات.

في غمرة هذا المحيط العميق لمن يفهم التراث، يدرك أن نضج التناول والتعاطي معه يتطلب التأني في التلقي والتبني أو النقد والتجني، فلا يفعل راصد التراث المعيب في التصدي للتراث وهو لم يتبلل من شطآنه تعلما ودراية، خصوصا إذا اقتحم تجسرا وتذاكيا قاصدا عمق محيط التراث وهو للتو لم يتعرف على سطحه وغوره.

ظاهرة اقتناص وتصيد ما في التراث لشواذ أقوال أو غريب تأويل لا يستحسنه عقل، هو آفة مذمومة واندفاعة غرائزية، سيما إذا دفعها ولع لتحقيق سبق وإثارة للناس، ليسمع رنين التطاول والأصداء لتقزيم التراث.

من فعل ذلك دونما تخصص أو تأدب في النقد يثير دهشة وهشاشة جدل، لا ترتقى لعلمية أو موضوعية في التحليل والنقد، بل لا تخدم هدف ينفع إنما هي تشوش وتحلل وتهكم دونما تأصيلاً.

تراثنا فية احترام وقداسة للأنبياء وما نزل عليهم من وحي في كتبهم، وما تأتى كذلك من تعاليمهم التي بعضها ضبطت فيه أسانيد موصولة، خضعت لموازين الجرح والتعديل أو التوثيق والتضعيف صانتها من تحريفات البشر.

التراث يُحترم فيه كل صاحب عطاء، ولا يقدس أو يرفع من مكانته البشرية الخطاءه، والتأدب مع من ساهم في التراث أن نتحين معه الظن الحسن، حتى لتسع الناقد له مقولة “علّ سقطاته تغمر في بحر حُسن اجتهاده وكثير نتاجه”.

المتأمل للتراث والذي يأخذ منه ما يفيد ويستبصر، يعلم أن الزمان أنزل ستاره على العصور التي خلت، وأمسى ما فيه من أفعال وأقوال في ذمة الله، وما كان فيه من مناقب ومثالب خطتها ريشة الزمان على صفحات التاريخ ذهبت، وبَقى ما دُوَّن منها أو توارث اثره ونفع، فالحذر من المسطحين المتذاكين في نقد التراث وهم للأمانة العلمية بعيدين وغرائزيا هم حانقين.

ختاما؛
تبقى صنائع الحاضر واستشراف المستقبل هو ما تحوم حوله سُبل النهضة، والتموضع العالمي بين الأمم، وزخوم التراث في فسحته الواسعه تندب التلاقي بين الماضي والحاضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *