الرأي

العقل الهادئ

محمد عبدالله الفريح

مدير إدارة النشر والترجمة - شركة العبيكان للتعليم

اكتشف مزارع ذات يوم أنه فقد ساعته اليدوية في مخزن الحبوب. لقد كانت تلك الساعة غير عادية، إذ إنها ذات قيمة عاطفية خاصة بالنسبة له. بعد تفتيشه وتنبيشه في التبن لمدة طويلة لم يعثر على شيء، توجّه طالبًا مساعدة مجموعة من الفتية، الذين كانوا يلهون ويمرحون بالقرب من المخزن، وعد المزارعُ بمكافأة من سيعثر عليها، وهكذا أسرع الفتية وولجوا المخزن، وأخذوا في البحث الحثيث عن الساعة في كل ركن وزاوية، لكن دون جدوى.

عندما كان المزارع على وشك الاستسلام واليأس من إيجادها، تقدّم فتى صغير من المزارع طالبًا منحه مهلة أخرى للبحث. ألقى المزارع نظرة على الفتى، وقال في نفسه: لم لا؟ يظهر أنه جادّ ومخلص فيما يطلب، وهكذا بعث المزارع الفتى لمخزنه، وبعد هنيهة عاد الفتى والساعة بيده. فرح المزارع بها فرحًا شديدًا، وقد بدت عليه علامات الدهشة سائلًا الفتى: كيف نجحت في هذه المهمة في حين فشل أقرانك الآخرون؟ ردّ الفتى قائلًا: لم أعمل شيئًا سوى الجلوس على المصطبة وإرهاف السمع، في مثل ذلك الجو من الهدوء والسكينة، تناهت إلى مسمعي تكتكات الساعة، فقمت وبحثت عنها في ذلك الاتجاه فوجدتها!!.

تعجبت كثيرًا عندما قرأت هذه القصة، كيف للهدوء الداخلي والخارجي عندما يجتمعا أن يحدثا المعجزات في حياتنا، فهذا طبيب القلب عندما يضع سماعته على قلب المريض ينصت بخشوع شديد، وكذلك من حوله من الطاقم الطبي وبشكل تلقائي.

لمنح الفرصة للطبيب للاستماع لضربات القلب، ليتأكد من انتظام ضرباته.

وهذا مهندس السيارات يصغي بإذنيه وجوارحه لسماع صوت محرك السيارة وهي دائرة ليتأكد من مكمن الخلل بها، ويستطيع من ثم ضبط إيقاعها من جديد.

وهذه الحيوانات والطيور بكل أنواعها تخضع نفسها وفصائلها لساعات الهدوء والسكينة وساعات الإنصات المتلاحقة لتتأكد من عدم وجود الأعداء بالقرب منها، بل إن الكثير منها ينجو بحياته بسبب هذه الخصلة الجميلة، التي أودعها الخالق جلت قدرته في كل مخلوقاته.

كما نرى المفترسات من الحيوانات والجوارح لا تستطيع صيد فرائسها دون الخضوع للعمل بهدوء شديد، وبسكينة تمتد لساعات أحيانًا، وتحرص جميع الكائنات على إكساب فصائلها هذه المهارة الهائلة منذ نعومة أظفارها لإدراكها أن نتائج إتقان هذه المهارة ستكون استثنائية بكل أبعادها.

في كثير من الأحيان نحتاج إلى الهدوء والسكينة والإنصات بمهاره لنستطيع سماع صوت من نحب واحتواء بعضنا، والقضاء على خلافاتنا وتعدد آرائنا بقليل من هذه المهارات التي منحها لنا الخالق في هذا الكون.

ويزيد هذه الصفات جمالاً وبهاءً ما ذكره الخالق عز وجل في كتابه العظيم عن متقني هذه المهارة حين أثنى عليهم بقوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الْأَلْبَابِ (18)

وتذكر دائمًا أن: من لا يتقن فن الاستماع في الغالب الأعم لا يجيد فن الحديث.

خاطرة:

السكينة الداخلية هي على وجه التحديد التي ستغير العالم وتنقذه – إيكهارت تول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *